بقيت تفاصيل اتفاق سوتشي حول محافظة إدلب، الذي تم التوصل إليه الإثنين بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، غامضة حتى يوم أمس، ليبدو اتفاقاً واحداً ببنود تختلف باختلاف هوية الأطراف المتصارعة. ومن غير المعروف ما إذا كان الاتفاق المعلن من قبل الرئيسين في المدينة المطلة على البحر الأسود، يتضمن بنوداً سرية غير معلنة، تُبرر سعادة الطرفين المتحاربين إزاءه، أي النظام السوري وإيران من جهة، والمعارضة وأنقرة من جهة ثانية، أو أن حفلة الترحيب التي تتالت فصولها أمس بمضمونه تنطلق من رغبات الطرفين، المعارضة بأن يضمن لها الاتفاق وجوداً آمناً دائماً في إدلب، والنظام بأن يمهّد الاتفاق إلى دخوله المحافظة في مرحلة لاحقة تأمل دمشق أن تتحقق في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ولم يعكر، أمس الثلاثاء، هدوء إدلب ما بعد توقيع اتفاق سوتشي، إلا قصف على بلدة أم الخلاخيل في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، من قبل قوات النظام. وعلى الرغم من الترحيب بالاتفاق، يبقى التحدي الأبرز أمام الروس والأتراك تطبيقه في منطقة باتت “غابة بنادق”، إذ لا يخفي مصدر في المعارضة السورية تحدثت إليه “العربي الجديد” الخشية من “خداع روسي” تجلى في مواقف سابقة، و”غدر من النظام” الذي “يتجاوز كل اتفاق”، وفق قوله.
وكشف وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أمس، بعض تفاصيل الاتفاق، موضحاً أن المنطقة الآمنة ستكون ما بين 15 و25 كيلومتراً على الحدود الفاصلة بين إدلب ومناطق النظام، وستكون خالية من السلاح الثقيل، مع بقاء المعارضة فيها بالسلاح الخفيف، وطرد المتطرفين من المنطقة. وأعلن خلال مؤتمر صحافي مشترك عقده مع نظيره الأردني أيمن الصفدي في أنقرة، أن حدود المنطقة سيتم تحديدها عبر اجتماعات فنية تقنية تجري بين الطرفين التركي والروسي، مؤكداً أنه سيتم فتح الطريقين الدوليين حلب – حماة، وحلب – اللاذقية قبل نهاية العام الحالي.
وأوضح أنه اعتباراً من 15 أكتوبر/تشرين الأول المقبل سيتم إخراج الأسلحة الثقيلة من المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، وستتخذ روسيا تدابير لمنع دخول النظام إلى إدلب ولمنع وقوع هجوم عليها، مشدداً على أنه وفقاً لاتفاق سوتشي ستتم المحافظة على حدود إدلب، والجميع سيبقى في مكانه. وأضاف: “المعارضة ستبقى في هذه المنطقة (إدلب) وكذلك المدنيون سيبقون، والمجموعات الإرهابية فقط هي من سيتم إخراجها، وسيتم إخلاء المنطقة من الأسلحة الثقيلة من قبيل الدبابات وراجمات الصواريخ، ولكن الأسلحة الخفيفة ستبقى بأيدي بعض قوات المعارضة المعتدلة”. وتابع: “سيتم وقف إطلاق النار، ولن تتم مهاجمة إدلب، وأيضاً لن يكون هناك استفزازات لمناطق أخرى انطلاقاً منها”. وقال إن طائرات من دون طيار تابعة لتركيا وروسيا، ستقوم بتنسيق دوريات في المنطقة منزوعة السلاح بين مناطق النظام والمعارضة في إدلب، معلناً أن وحدات المخابرات والأمن التركية والروسية ستبحث وضع الجماعات المتشددة في إدلب.
وفي السياق، أكدت مصادر مطلعة في المعارضة السورية المسلحة لـ”العربي الجديد”، أنه من المتوقع أن تبدأ المنطقة منزوعة السلاح من منطقة نبّل في ريف حلب الشمالي وتنتهي في ريف مدينة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي على الحدود السورية التركية، لتحيط بشكل كامل بالحدود الإدارية لمحافظة إدلب، بطول نحو 250 كيلومتراً. وتضم المنطقة العديد من المدن والبلدات من طرفي النظام، والمعارضة، أبرزها: العيس، أبو الظهور، وتل طوقان، وصرمان وسنجار وأبو دالي، ومورك، وصوران، وكفرزيتا، وكفرنبودة وتل هواش والجابرية والكركات، وقلعة المضيق وخط الغاب الأوسط، وطيبة الإمام، وحلفايا ومحردة والسقيلبية، وخط الغاب الغربي، والشغر، واشتبرق. وأشارت المصادر إلى أنه “ستُشكل لجنة خاصة بوضع حدود المنطقة منزوعة السلاح”، لافتة إلى أن عمق المنطقة المقرر في اتفاق سوتشي بـ15 كيلومتراً ربما يتغير حسب طبيعة كل منطقة مشمولة بالاتفاق، وهذا الأمر سيكون موضع اجتماعات بين قادة الجيش السوري الحر، والجيش التركي العامل في الشمال السوري.
كما نفت مصادر تركية مطلعة، لـ”العربي الجديد”، “شائعات النظام بأن تسليم السلاح الثقيل سيكون في كامل إدلب، وعودة مؤسسات النظام للعمل في المحافظة”. وقالت المصادر إنه من السابق لأوانه الحديث عن جغرافية وحدود المنطقة منزوعة السلاح، لأن الفرق الفنية لا تزال تواصل عملها، ملمّحة إلى أنه سيتم الطلب من المصنفين متطرفين تسليم سلاحهم ومغادرة المنطقة، ومن لا يلتزم سيكون هدفاً لـ”الجبهة الوطنية للتحرير” التابعة للمعارضة، بدعم تركي قوي، وهذا الأمر مرتبط بفترة زمنية تصل لمنتصف الشهر المقبل.
ورحبت المعارضة السورية المسلحة باتفاق سوتشي، على الرغم من أنها لا تعرف تفاصيله وآليات تنفيذه على الأرض، ولكن مجرد تجنيب شمال غربي البلاد كوارث التدخل العسكري، كان كفيلاً باعتباره منجزاً مهماً من قبل الجانب التركي. واعتبر المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، النقيب ناجي أبو حذيفة، الاتفاق “نجاحاً للدبلوماسية التركية”، معرباً في حديث مع “العربي الجديد” عن اعتقاده بأن موقف الفصائل التابعة للمعارضة وجاهزيتها للمواجهة إضافة إلى الموقف الشعبي الذي تم التعبير عنه بالتظاهرات، عوامل أسهمت في تجنيب شمال غربي عملية عسكرية. وحول تفاصيل هذا الاتفاق وآليات التنفيذ على الأرض، أشار أبو حذيفة إلى أنه “حتى اللحظة لا نملك تفاصيل وحيثيات الاتفاق”.
من جهته، قال المسؤول في الجيش السوري الحر، مصطفى السراج، لوكالة “رويترز”، إن “اتفاق إدلب يضمن حماية المدنيين من الاستهداف المباشر ويدفن أحلام الأسد بإعادة إنتاج نفسه وفرض كامل سيطرته” على سورية. وقال إن هذه المنطقة ستظل في أيدي الجيش الحر مما سيؤدي إلى “إجبار النظام وداعميه على البدء بعملية سياسية جدية تفضي إلى انتقال سياسي حقيقي وإنهاء حكم الأسد”.
أما المحلل العسكري العقيد الطيار مصطفى البكور، فرأى أن اتفاق سوتشي “ليس جديداً”، مضيفاً في حديث مع “العربي الجديد”: “هو اتفاق روسي تركي جرى خلال جولات أستانة وتم الكشف عنه أخيراً”. وأشار إلى أنه لا توجد تفاصيل عن آليات التنفيذ، معرباً عن اعتقاده بأن “الاتفاق غير قابل للتطبيق على الأرض، لكنه إطار لتأخير المواجهة العسكرية”.
في المقابل، اعتبرت وسائل إعلام تابعة للنظام الاتفاق بمثابة “تجريد” فصائل المعارضة في إدلب من الدعم التركي المباشر، واعتبارها منطقة منزوعة السلاح، كخطوة أولى على طريق استرجاعها مجدداً من قبل النظام، وإبعاد ومنع “عدوان أميركي غربي” تنتظر واشنطن وحلفاؤها تنفيذه. ونقلت صحيفة “الوطن” التابعة للنظام عما أسمتها بـ”مصادر دبلوماسية في موسكو”، أن الاتفاق الروسي التركي “سيتم على ثلاث مراحل”، زاعمة أن المرحلة الأولى “تتضمن إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 كيلومتراً حول مدينة إدلب، وتنفيذها قبل منتصف أكتوبر/تشرين الأول المقبل”. وأشارت إلى “أن المرحلة الثانية سيتم فيها نزع السلاح الثقيل، وتمتد حتى العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وبإشراف روسي تركي، وليتم بعدها الانتقال إلى المرحلة الثالثة التي سيجري فيها دخول مؤسسات الدولة السورية لاستلام مهامها قبل نهاية العام، بعد أن يتم تسليم كل الأسلحة الثقيلة، ويجري اعتبار الفصائل التي ترفض هذا الاتفاق عدوة حتى للجيش التركي، وتصنف على أنها إرهابية، ومن الواجب قتالها”، وفق الصحيفة، وهو ما نفته مصادر تركية رفيعة المستوى لـ”العربي الجديد”.
وكان من اللافت سرعة ترحيب حكومة النظام باتفاق سوتشي، زاعمة في بيان صدر أمس عن خارجيتها أن الاتفاق “كان حصيلة مشاورات مكثفة بينها وبين روسيا وبتنسيق كامل بين البلدين”. ولكن النظام أكد في البيان نفسه أنه ماضٍ في حربه ضد “الإرهاب حتى تحرير آخر شبر من الأراضي السورية سواء بالعمليات العسكرية أو بالمصالحات المحلية”، مشيراً في البيان إلى أن الاتفاق الروسي التركي “مؤطر زمنياً بتواقيت محددة وهو جزء من الاتفاقيات السابقة حول مناطق خفض التصعيد التي نتجت عن مسار أستانة منذ بداية عام 2017”.
من جهتها، رحبت طهران باتفاق سوتشي، واعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي أنه “خطوة هامة في طريق التخلص من بقايا الإرهاب ولإرساء الحل السياسي في سورية”. وربما يكون الموقف الإيراني إما منطلقاً من تفسير النظام للاتفاق وبالتالي يعني بالنسبة لهم استعادة النظام لإدلب “سلمياً” في نوفمبر المقبل، أو أنه صدر على هذه الشاكلة مرحباً، لتفادي الإحراج ولتبرير تهميش طهران من الاتفاق الذي حصل ثنائياً بين روسيا وتركيا بلا إيران.
لكن المؤكد يبقى أن النظام لم يستطع تمرير سيناريو جنوب سورية في شمالها، إذ لم يحصل على دعم سياسي وعسكري روسي لشنّ هجوم على إدلب بقي لأشهر يحشد قواته من أجل شنّه. كما أن الاتفاق قطع الطريق أمام عودة النظام إلى شمال غربي سورية، على الأقل في المدى المنظور، وهو ما يشكل صدمة كبيرة، ولكنه لا يستطيع الإعلان عن هذه الصدمة بسبب تبعيته المطلقة للجانب الروسي. بينما حقق الروس جزءاً كبيراً من مطالبهم، خصوصاً تأمين قاعدتهم في منطقة حميميم على الساحل السوري، وفتح الطرق الدولية إلى مدينة حلب، وضمان عدم مهاجمة فصائل المعارضة للمناطق التي يسيطر عليها النظام، كما أنهم نجحوا في إلزام الأتراك بإيجاد حلول لمشكلة “جبهة النصرة”، وهو ما جنّب موسكو الغضب الغربي في حال شنّ عملية عسكرية تؤدي إلى كوارث إنسانية.
المصدر: العربي الجديد