اختيار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قصر وحد الدين، الشيخ زاده العثماني وشقيق السلطان عبد الحميد، والذي ساهم الروس والألمان والفرنسيون في تحديد موقع الصرح وتجهيز هندسته وبنائه وفرش محتوياته قبل عقود، اختياره هذا القصر مكاناً لانعقاد القمة الرباعية مع الرئيسين الروسي بوتين والفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل، رسالة تاريخية وسياسية للمتغيبين، قبل أن تعني المشاركين. وهي القمة المحتمل أنها نظمت من أجل قطع الطريق على بعض الأمور، قبل أن تكون قد عقدت من أجل إنجاز بعض الأمور.
القناعة في أنقرة وعواصم عديدة، وعلى مستوى لاعبين كثيرين محليين في الملف السوري، أنه لو لم تتحرّك أنقرة في العامين الأخيرين بهذا الشكل السريع والعملي في التعامل مع مسار الأزمة وارتداداتها عليها، لما كان وضعها على ما هو عليه اليوم، ولتحول النقاش من البحث عن تسويةٍ لملف الأزمة السورية إلى البحث عن حلول للورطة التركية في سورية. والواضح أيضاً أنه لو لم تتوتر العلاقات التركية الأميركية في سورية، لما حدث التقارب التركي الروسي الواسع والمتعدّد الجوانب، كما هو الحال عليه اليوم، وتم هذا اللقاء برعاية تركية ودعم ومساندة روسية علنية.
باريس وبرلين تحضران قمة إسطنبول، لكن أنقرة وموسكو تعرفان جيداً أنهما من الأطراف الفاعلة في القمة السباعية التي تقودها واشنطن، بالتنسيق مع عدة دول عربية. ومؤكّد أنه لو لم تتمسّك أنقرة بتوسيع رقعة تمدّدها الإقليمي الاستراتيجي، على الرغم من الأزمات الاقتصادية والمالية التي عصفت بالبلاد، لما رأينا الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية يجلسان إلى جانب أردوغان وبوتين، لالتقاط الصور التذكارية أمام مضيق البوسفور “غصتهم” السياسية والتاريخية.
وما لا خلاف بشأنه أنه لولا بعض مواد البيان الختامي الذي اشتمل على رسائل عديدة إلى واشنطن وحلفائها المحليين في سورية، لما كانت المدفعية التركية تتحرّك، للمرة الأولى وبعد الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، لقصف أهداف لقوات سورية الديمقراطية (قسد) في منطقة عين العرب، على مرأى منسق العمليات العسكرية الأميركية الجنرال جوزيف فوتيل ومسمعه.
كانت القمة ناجحة في اعتماد الدبلوماسية الهادئة والمتوازنة والمرنة التي انعكست على شكل البيان الختامي ومضمونه، لكنها كانت قمةً صعبة، لم تحقق توقعاتٍ كثيرة، لأنها جاءت لإرضاء الأطراف المشاركة، بإدراج أهدافهم وأولوياتهم في الملف السوري، وسبل الحل التي يطرحونها للخروج من الأزمة. هي قمة إرضاء المشاركين، قبل أن تكون قمة إرضاء الشعب السوري، وتحقيق حلمه بتحرّك دولي، يُنهي معاناته منذ ثماني سنوات.
تغيّبت إيران عن القمة، لكنها كانت في قلب المشهد، كما فهمنا من الرئيسين التركي والروسي. ولم تحضرها الولايات المتحدة، لكن زيارة وزير الخارجية، مايك بومبيو، ومديرة جهاز الاستخبارات، جينا هاسبل، إلى تركيا قبل الاجتماع، تفيدان بأن واشنطن كانت حاضرة بثقلها الميداني والجغرافي، وبالرهان على حليفها الكردي الذي يسيطر على مساحات واسعة في شمال شرق سورية وشرقها. ويرى بوتين أنها قمة تأتي بعد التقارب التركي الروسي الواسع في لقاءات أستانة وسوتشي، لكن الطموح التركي، كما يبدو، أبعد من ذلك، ويصل إلى محاولة فتح الطريق أمام قمة جديدة بمشاركة أوسع، تشمل الروس والأميركيين والأتراك، وبعض العواصم الأوروبية والعربية، وتعد لتفاهمات سياسية وأمنية واجتماعية أوسع في تفعيل خريطة تسوياتٍ جديدةٍ في مسار الأزمة السورية.
هي قمة ناجحة بالنسبة لأنقرة، لأنها تمكّنت، إلى حد ما، من جمع التناقضات وتضارب الحسابات والمصالح بين الدول الأربع أمام طاولةٍ واحدة. وهي ناجحة أيضاً لأن الأتراك حصلوا على دعم الدول المشاركة في ملف إدلب، ومنع أي انفجار أمني هناك، تكون له عواقبه الخطيرة في منطقة الحدود التركية السورية. وعلى الرغم من أن أنقرة لم تنجح بعد في إزاحة عقدة الجماعات المتطرّفة والمتشدّدة من الطريق. والقمة ناجحة أيضاً بالمقياس التركي، لأن أنقرة جيّرت لصالحها القلق الأوروبي من عودة مجموعات متطرّفة غادرت العواصم والمدن الأوروبية إلى الداخل السوري، وتخطط للرجوع. وها هي تركيا تساوم فرنسا وألمانيا على دعم حقيقي لمسار جديد في الأزمة السورية. وتريد أنقرة التي عانت من عدم التزام أوروبا بالدعم المادي الموعود، لمواجهة أعباء اللجوء والهجرة، من برلين وباريس، هذه المرة، أن يشاركا في تمويل خطط عودة آلاف اللاجئين السوريين، وتوفير المتطلبات الحياتية الأساسية لهم.
هدف أنقرة من القمة حدّده الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، بأنها محاولة لكسر الجمود الحاصل في الملف السوري، والتقاء المحورين المعنيين به، محور أستانة والدول الضامنة تركيا وروسيا وإيران، و”المجموعة المصغرة” التي تقودها الولايات المتحدة وتضم سبع دول أوروبية وعربية، فتركيا لم تتمكّن بعد من إقناع المتشدّدين بمغادرة المنطقة المنزوعة السلاح في إدلب، لكنها تصعد يومياً ضد واشنطن، وتذكّرها بأنها ستنقذ منبج، وعين العرب، وتل أبيض، وجميع أراضي شمالي سورية، من ظلم المنظمة الانفصالية، مثلما حرّرنا عفرين كما يقول الرئيس التركي.
وتدرك أنقرة جيداً أنه لن يكون في وسعها الابتعاد عن موسكو وطهران في سورية، من دون بدائل وتطمينات استراتيجية أميركية وأوروبية واسعة، لكنها تدرك أيضاً أنها لن تحصل على ما تريده، قبل أن تقدّم ضماناتٍ كافيةً بشأن عودتها إلى بيت الطاعة الغربي. لكن مشكلتها أكبر من ذلك بكثير، من مساومةٍ أميركية روسية، تحصل بشأن الملف السوري، خصوصاً في شرق الفرات ودير الزور والرقة، وأن تدفع هي الثمن على حدودها الجنوبية، في إطار نظام دستوري كونفدرالي يفرض على السوريين.
الولايات المتحدة متمسّكة بإخراج إيران من المعادلة الإقليمية، وهي تصرّ على فعل ذلك، حتى ولو كان المقابل الانفتاح على موسكو، وهذا هو أكثر ما يقلق أنقرة التي حاولت أن توسع رقعة تفاهماتها وتحالفاتها في القمة الرباعية.
المصدر: العربي الجديد