تعبّر روايات الحرب عن واقع الحال في البلدان التي تخاض فيها الحروب، ومنها سوريا التي اجتاحتها ثورة وحرب داخلية سوريّة افتعلها النظام السوري بسبب خياره العسكري–الأمني رداً على المظاهرات السوريّة التي انطلقت في شهر آذار من العام 2011، وإذا كانت الرواية لا تضع على عاتقها تقديم خطاباً إيديولوجياً ولا خطاً سياسياً أو مناظرة سياسية فكرية لتسويق حالة سياسية ما، وإنما العناية بالشخصيات الروائية والحكاية، والسرد، والدعوة إلى اتخاذ موقف من الحرب التي تقتل الإنسان، ولا تدع أحداً قادراً على الحفاظ على أرواح الناس وأرواح من يحبهم الإنسان بغض النظر عن الحرب وأدواتها ومموليها ومحبذيها للحفاظ على مصالحهم الخاصة والعامة. فإن العمل الروائي يحفز المتابع على قراءة البناء الروائي للحياة بكافة ألوانها وصنوفها بين دفتي رواية في زمن الميديا السائدة التي تقول كلمتها في دقائق وتسير إلى عالم آخر بعيداً عن الرواية والقصة والقصيدة.
ومن بين أعمال الحرب التي اطلعت عليها رواية”خمارة جبرا” للروائي والصحفي نبيل الملحم الصادرة في العام 2016، عن دار المتوسط وهذه قراءة في بعض خطوط الرواية.
ذاكرة الحرب:
يقرأ الناقد السوري الدكتور جمال شحيد في كتابه “الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة”، الذاكرة من جوانب واختصاصات متعددة منها كيف يميز العلماء بين نوعين من الذواكر: الذاكرة التصريحية، وهي الذاكرة التي تقتضي تذكراً واعياً لمعلومة مفصح عنها، والذاكرة غير التصريحية التي تعتمد على مخزون من المعلومات والعادات والتجارب والمهارات، وفي رواية خمارة جبرا يصف الروائي شخصية جاد الحق جاد الله عبر الذاكرة التصريحية أنه “ربما كانت المرة الأولى في حياته، التي يتجرأ فيها على البوح برغبته في إسقاط النظام السياسي للبلاد، فقد أمضى ما يزيد عن الأربعين عاماً، وهو يكتب الخطابات الطويلة لعز الدين الحكيم رئيس اتحاد عمال الدولة، وكانت معظم خطاباته تركز على جمل، لم يخل خطاب من ذكرها، كان يراها جزءاً من سراب التاريخ، ومن بينها كان شعار:(إلى الأبد)
“(ص14).
هذه الذاكرة لا تصرح عن ذاتها إلا في مشفى المجتهد حيث يرقد جاد الحق و الممرضة “المتجولة بين أسرة مرضى كسور العظام، كانت تعلم حقيقة أن هشاشة عظام هذا الرجل، جعلت مجرد الإمساك بيده مخاطرة غير محسوبة العواقب،
وسيضاف إلى مشاعرها تلك ضغط مرضى الإصابات الحربية التي تصل بالتتابع إلى المشفى الحكومي هذا إلى مشفى حربي أكثر منه مشفى مدنياً”(ص16).
إن ذاكرة الرجل الخمسيني تنشط بتذكر العشرين سنة السابقة من حياته بشكل تقريبي، ولا توجد ذكرى واحدة تعكس الواقع مئة بالمئة، كل ذكرى ممزوجة بجرعة من المتخيل.
ونجد ذلك عند انتقال جاد الحق جاد الله إلى الكرسي المدولب،” فخيالاته الوقادة، و قد خسر الكثير من بريقها عبر مرور السنين وتعاقب الأيام، لم تسعفه في استيعاب ضيق الكرسي”(ص61).
هذه الكرسي غير المؤهل للقيام بوظائفه في” أعقاب الحرب في سوريا، وكانت الحرب طالت، بالإضافة إلى مدن وهوامش المدن، معسكرات الجيش وحواجزها، كما اجتاحت قطاعات واسعة من مرافق وزارة الصحة، بالإضافة إلى المخابز و ملاجئ المسنين، وأصابت فيما أصابت مشفى ابن سينا للأمراض العقلية المحاذي للعاصمة، ما جل مرضاه يهيمون في المعجزة، انتقل بعضهم إلى دمشق، غير عابئ بالقذائف والمفخخات ورشقات الأسلحة الخفيفة المتساقطة عشوائياً”(ص62).
لكن شخصية جبرا تحاول أن توجه جاد الله باتجاه لعب دور في الحروب القادمة حيث يوقفه في الشارع وهو صغير ليسأله “– ما بك؟ خذ، دخن، سمعت أنك نلت شهادة السرتفيكا .. عظيم بعد ست سنوات تأخذ البكالوريا، وتتطوع في الجيش، لتصبح ضابطاً بنجمة وسأقول لك سيدي الملازم، وستحرر لنا فلسطين، وتستعيد اللواء السليب أيضاً”.
بينما جاد الحق في مشفى المجتهد يحاول التشبث بالحياة رغم قناعته بضيق هذا الخيار عندما يبدأ الدمار يحيق بمدينة مثل دمشق وهو يرى”سيارات الإسعاف تقل الجرحى والأشلاء الممزقة في كل الأمكنة، في بلاد دخلت في حرب، اختلف على تسميتها، ما بين حرب أهلية، وثورة، وانتفاضة، ومؤامرة أممية، وهكذا فعندما تكون الذاكرة هي العدو، سيكون على جاد الحق جاد الله أن يحث عظامه على التفتت”(ص138).
وترسم الصورة الحركية للجنود أمام جاد الحق وكرسيه في المشفى إيقاع الحرب “وها هو اللحظة عجوز، يقعد فوق كرسي مدولب في ساحة مشفى المجتهد، وإلى جانبه وقفت ياسمينة، وابناه، بين لهاث عساكر يدخلون المشفى حاملين جرحاهم، والكثير من القتلى، وأصوات المدافع ترتفع وترتفع، ورشقات الرصاص تأتي في حقول الصبير في كفرسوسة، ومن جهات مجهولة في العاصمة، لترسم بوادر حرب أهلية، وتكون الحياة فريستها”(ص155).
و في ساحة المشفى المجتهد تصف زوجة جاد الحق ياسمينة ضحكة زوجها التي كانت خائفة من أن تكون ضحكته هذه ضحكة الموت التي يخافها الأحياء، ربما لاعتقادها بأن زوجها يحتضر، فكسور العظام للرجال الهرمين لا شفاء منها، وربما بدافع اعتقادها هذا همت لتحريك الكرسي نحو الباب الخارجي للمشفى “فالاشتباكات حطت بمناطق دوار كفرسوسة، ورشقات الإطلاق المتبادل احتفلت بموت آخر فرصة، تشير إلى أن ثمة نجاة من الرصاص العشوائي الذي يتطاير كما الذباب فوق أنوف ووجوه العابرين الراكضين من حوله “(ص194).
أن الخطاب الروائي المنثور في صفحات رواية خمارة جبرا بعيداً عن المباشرة وإنما كخلفية من خلال وجود الشخصية الأساسية جاد الحق جاد الله، وهو في المشفى تحاول زوجته وأبنائه إخراجه منها إلى بيتهم، وهذا الخط الواقعي في الرواية هو الأقرب إلى الواقع السوري ما بعد العام 2011، بينما بقية خطوط الرواية توغل في ماضي الشخصيات وماضي سوريا السياسي والاجتماعي في حياة العاصمة السورية دمشق.
الحب الامومي والجنسي:
يرسم الروائي نبيل الملحم فضاءات انتحار شخصية العاهرة فرنسا في مكان إقامتها في بيت الروبير القريب من ساحة الأمويين بعد خروج ربيبتها وابنة حارتها زمردة إلى بيت قتيبة، وهو الماخور الوحيد الذي بقي في دمشق من زمن الاحتلال الفرنسي إلى دولة الوحدة، كأحد رموز الديمقراطية ما بعد الاستقلال إلى زمن الدولة البوليسية، لكن من زاوية علاقة هذا الانتحار بحب الرجال الذين يزورون الروبير وبناته، وكيفية العلاقة المقامة على المتعة في الحب والجنس نجده يقول:”لم تسمع أي من بنات الروبير صوت ارتطام جسد فرنسا بالأرض، فقد سقطت بصمت، وكان يسيل من ضجيج المكان صوت مطربة القطرين فتحية أحمد، وهي تغني يا حلاوة الدنيا، يا حلاوة، وهي الأغنية الأكثر انتشاراً في بلاد تبحث عن طرب مؤقت، يؤجل مصائر بناة عراة محفوفات بأوشام تغطي سواعدهن، يستدير فيها القلب منتهياً، كما رأسي سهم، فيما السهم يخترق القلب إلى الأسفل وعلى الساعد الآخر، أسماء مختزلة لرجال، أقسموا على الحب، وفي غفلة من القسم، استأصلوا ذكرياتهم، وهجروا حبيباتهم تاركين ندباً في أرواحهن، غالباً ما كانت تتسبب في حرمانهن من الحليب والدموع، ليقبعن في الروبير، وهن يتلصصن على رجال فحول دون أن يتسن لهن كتابة آلامهن” (ص165).
بينما يصف وارث أسنان أمه بعد دفن فرنسا في مقبرة مهملة قرب دمشق إذ يقول: “والله العظيم، ورسله، إنها لم تتوقف عن الغمر والتراب يطفو فوق وجهها، فما إن انهال التراب حتى سخن، وبات حبات جمر ملتهبة.. كان بوسعنا أن نشوي ثوراً على لهيبها ولا شك بأن جثث الرجال الذين يحيطون بجثتها كانت تتحرك، كانت رماحهم تخرج من قبورهم، وكنت أسمع تنهداتهم بأذني هاتين، وكنت أرى بعيني اللتين سيأكلها الدود رجالا موتى يتحرقون مادين ألسنتهم اشتهاء لها”(ص169).
ويتحول انتحار فرنسا من حزن على جاد الحق جاد الله إلى صرخة إعجاب من نجيب رئيس التحرير على مادة “حادث موت في الروبير “بالقول”ما هذا؟ أنت كاتب عظيم .. سأنشرها بالمانشيت العريض على الصفحة الأولى، وستكون مذيلة باسمك، وسأخصص لك مكافأة مجزية “(ص168).
في حين نرى كيف قرأ جبرا انتحار فرنسا وتأثيره على حبه الضائع من الروبير إلى مكان آخر ما بين دمشق وباريس”يمكننا أن نخمن أن جبرا كان يأمل، حتى وهو يعرف أنه ليس ثمة أمل بعودة زمردة، ولكنه كان يفتقر إلى القدر على رؤية الأدلة، وهي أدلة يمكن تفسيرها، إذ ما تعمد المرء تفسيرها تفسيراً خاطئاً، فالحب بوح،
وثرثرة، وعار، وكائن يمكن قراءته دون أن يكون بالوسع ترجمته..وهو هكذا، سر حصري معلن، يكثف الكون فينا”(ص172).
لكن الحب الجنسي عند جاد الله وجورجيت يتخذ بعداً آخر، وعميقاً عما نراه عند جبرا في الرواية حيث نجد جورجيت في وضعية أخرى “غير أنها لم تكن لتدخر جهداً في توديع كبريائها أمام استثاراتها الجنسية، وأمام متطلبات جسد، يأمرها، فتأتمر، لتجثو مزدهرة، وهي تفكك أزرار بنطال الصبي، كاشفة حقيقة نصب، يزحف نحو صدرها العاري، مميتاً، نهماً، متغولاً، عصياً على الشفقة، جشعاً، يحمل قناع إله عابث كشيطان- نم .. لم أشبع منك. إنك تحرق جحيمي. قالت له. خمسة جماعات متتالية، وعقب كل جماع، كانت تزيل قناع الموت”(ص181).
ونرى أمومة زمردة حيث”احتضنت جاد الحق جاد الله، لتداعبه استثارة الضحك فيه عبر ترقيص أصابعها فوق صدره وبطنه وتحت إبطيه، ولم يكن الصبي قادراً على الضحك فيما صوت عويل المرأة الجارة يرتفع ويرتفع راجاً خياله، وحين انطفأ صوت المرأة الناتجة، القادم من الخارج، راح الصبي يخلد إلى النوم” (ص42).
إن جوانب الحب الموزعة في الرواية أكبر من حصرها في زاوية من زوايا الحب، لكن تقديم نماذج من الحب الذي قدمته شخصيتان من شخصيات رواية خمارة جبرا يوضح أن مسار شخصيات مومسات عاملات في بيت” الروبير” وكيف ختمت حياة فرنسا بالانتحار نتيجة عدم وجود أمل جديد في استمرارية عملها في شخصيات أخرى جديدة وبديلة عنها في “الروبير”، وامتلاك القدرة على تقديم الراحة والسعادة للعديد من الرجال.
بناء الشخصيات في الرواية:
عمل الروائي والصحفي نبيل الملحم في رواية “خمارة جبرا ” على بناء شخصية جاد الحق جاد الله كشخصية مركبة معقدة، نامية، ومدورة، عبر التحولات الدرامية والتراجيدية التي تطرأ على سلوكها وأفعالها ومواقفها داخل البنية الحكائية، فهو ينقلها من حال إلى حال، ويضعها في تناقضات حادة مع ذاتها والمحيط الذي تتحرك فيه” كان جاد الحق يصغي إلى جورجيت متيقظاً تلك اليقظة الذهنية التي ستبقى مرفقة بآلام جسدية، بالنسبة إليه طيلة عمره، غير أن وميض عيني جورجيت زاد من حيرته التي يرهقها فكره، فاستسلم لها وهي تنبهه إلى أن السلطة كالمرأة في المجتمع الذكوري لا يتزوجها شرعاً اثنان، وعليك أن تخطو:(نعم، إن فتى بموهبتك قادر على اجتياح السلطة، وبوسعك أن تتزوجها..سنة، سنتان، وستكون وزير إعلامها. كن بعثياً، وامنحها نفسك.. تزوج السلطة)”.(ص213).
وبذات السياق المركب لشخصية جاد الحق تظهر شخصية وارث أسنان أمه حيث تظهر في بداية الرواية كشخصية بسيطة، لكن في نهاية الرواية تتحول إلى شخصية مركبة تستغل الظروف لمصلحتها وتحقق حضوراً عارفاً وماكراً حين تخاطب جاد الحق: ومن أنت؟ أجابه الوارث – أنا جاد الحق جاد الله – ابن زمردة؟ قال له الوراث بعد أن تفرس في وجهه– نعم..أنا. ربت وارث أسنان أمه فوق كتف جاد الحق جاد الله، ليقول له: بلغها سلامي، وقل لها إذا كان راغبة في الشغل، فلتأتي، و لتشتغل عندي. ذاكرة الخزي، ستكون أكثر ضغطاً على جاد الحق جاد الله، وهو يتطلع إلى وجه الوارث وشاربيه المقلمين، ولكن الوارث، وقد تجاوز أيامه الخالية في بيع أوراق اليانصيب منتهية المدة، بات اليوم مالك زرائب عجول”.(ص249). و تنتمي إلى ذات التركيبة الشخصية في الرواية شخصية فرنسا.
تحتل الخمارة إلى جانب جبرا تبئيراً سردياً عالياً في الرواية ونجد شخصية ياسمينة البسيطة السطحية التي لا تتطور، وهي لديها وجهة نظر واحدة حول علاقتها بجاد الحق وأبنائها “ياسمينة الصامتة منذ تزوجت جاد الحق جاد الله. بعد عقود ستة من زواجهما، وبعد أن بات جاد على كرسي متحرك، وبين ناقلات موتى وجنود هارعين في الشوارع، يطلقون رشاشات بنادقهم، نظرت إلى جاد بريبة و حذر، وبدت كما لو كانت نجاراً يحمل المنشار والخيط وهي تستدرج حياتها معه، و بكلمات مقتضبة، سريعة، قالت له: إن أسوأ ما في عمري أنني كنت زوجتك” (ص318).
إن قراءة شخصيات الرواية من زاوية البناء يحتاج إلى بحث خاص لإيضاح مقدار الجهد المبذول عليها لبناء وتركيب هذه الشخصيات لتصل إلى القراء كما هي.
لكن يمكننا القول أن شخصيات الرواية جميعها تتحدث بذات المستوى الثقافي الاجتماعي(فرنسا المومس تسرد حكايتها بذات السوية الثقافية الاجتماعية التي تسردها جورجيت)، ويسردها جاد الحق جاد الله، فمن غير المفيد سردياً وجمالياً أن يتحدث وارث أسنان أمه بذات السوية التي يسرد ويقص فيها عز الدين الحكيم،
أن نمو الشخصيات غير متسق في الرواية يخضع لإرادوية ظاهرة لدى الكاتب بعيداً عن النمو الطبيعي واكتمال مستوى بناء هذه الشخصيات في الحياة ذاتها لينقلها لنا، وكأنها ولادة ونمو في ذات الكاتب، وليس بنت الحياة الطبيعية القادرة على رسم ملامح هذه الشخصيات.
ويضاف إلى ذلك مركزة البناء الروائي في أربع شخصيات روائية (جاد الحق جاد الله، جبرا، زمردة، وارث أسنان أمه) رئيسية ومتابعة حياة هذه الشخصيات وتطورها في الحياة والبناء الروائي أضعف المعمار الروائي خصيصاً عندما لا يعزز الروائي حياة عز الدين حكيم من كافة الجوانب الحياتية، وإنما بقيت في الإطار الرسمي الشكلي كشخصية غير مكتملة إذا لم نرى أسرته وحياته الاجتماعية وهذا لم يغني البناء المعمار الروائي، وهذا لا يظهر الجانب الاجتماعي بشخصية سياسية مركزية في العمل الروائي، وفي الحياة السياسية السورية.
أخيراً أن العمل الروائي خمارة جبرا للروائي والكاتب نبيل الملحم يستحق القراءة لأهميته كنموذج عن رواية الحرب السورية.