في محاولة لاقناع سوريا بالتخلي عن دعم “حزب العمال الكردستاني” زار رئيس الوزراء التركي حينها تورغوت أوزال، في تموز 1987، دمشق لتحسين العلاقة معها. ووقع الطرفان “بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني المشترك” الذي نصّ على تمرير كمية محددة من مياه الفرات، سبق الاتفاق عليها مع سوريا والعراق في العام 1976 بناء على طلب البنك الدولي.
النظام السوري كان قد أقام معسكرات تدريبية في البقاع اللبناني لمقاتلي “العمال الكردستاني”، واستخدم الحزب للضغط على أنقرة في مسائل عديدة وليس أقلها موضوع مياه الفرات. وكانت أنقرة تضغط على دمشق لوقف دعم “العمال الكردستاني” بإنقاص كميات الماء الداخلة إلى سوريا عبر الفرات. الصراع المسلح الذي خاضه “العمال الكردستاني” ضد أنقرة كان قد اندلع في 1984، وسمح النظام لزعيمه عبدالله أوجلان، بالإقامة في دمشق.
ويروي المؤرخ محمد جمال باروت في كتابه “التكون التاريخي للجزيرة السورية” أن بروتوكول 1987 نصّ على “اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع أنشطة الجماعات والأفراد الذين يضمرون نيّة التخريب ضد أمن واستقرار البلدين”. وعندما لم تتجاوب دمشق مع المطالب الأمنية التركية بخصوص “العمال الكردستاني”، والاعتراف بضم لواء اسكندرون إلى تركيا.
ماطلت تركيا بتنفيذ البروتوكول، وحاولت التوصل الى اتفاق على الفرات والعاصي، إلا أن نظام حافظ الأسد زاد من دعمه للحركة الكردية المتمردة في تركيا، وعمل على تنفيذ سد العاصي لقطع مياهه عن تركيا صيفاً.
مطلع العام 1990 تطور الخلاف إلى مواجهة خطيرة، بسبب تحويل تركيا مياه الفرات لملء سد أتاتورك، من دون إعلام الجانب السوري. الرئيس أوزال حينها، أشرف على اقفال النهر لشهر كامل، فاتهمت سوريا تركيا بـ”الإضرار بالحاصلات الشتوية وعرقلة جرّ المياه إلى مدينة حلب”، بعدما انخفض منسوب المياه في بحيرة الأسد ثلاثة أمتار.
وتم نزع فتيل التوتر بتوقيع اتفاق أمني سوري-تركي في 17 نيسان 1992، نص، في إشارة واضحة إلى نشاط “حزب العمال”، على المطالبة باتخاذ التدابير “تجاه منع العبور غير الشرعي على امتداد الحدود الوطنية” و”تطوير التدابير المتخذة لمنع إحداث إطلاق نار من دون مبرر على طول الحدود”، كامتداد للفقرات الأمنية في برتوكول توزيع المياه. ووقعها عن الجانب الأمني السوري مدير شعبة الأمن السياسي في وزارة الداخلية اللواء عدنان بدر حسن، ومدير الحركات في الاستخبارات العسكرية التركية اللواء أشرف تبليس.
ولم تجد الاتفاقية طريقها للتنفيذ، فزار الرئيس التركي ديميريل دمشق في كانون الثاني 1993، لمناقشة موضوعي الماء و”حزب العمال الكردستاني” الذي رفدته المخابرات السورية بـ”الجبهة الشعبية لتحرير تركيا/فرع لواء اسكندرون”.
مرة أخرى، أعادت تركيا تحويل مياه الفرات لملء سد بيراجيك (حكومة تانسو تشيلر) الذي يروي سهول ماردين وشانلي أورفه وجيلان بينار وتشغيل محطتها الكهربائية ما تسبب بانخفاض مياه الفرات إلى حد توقف 7 عنفات من أصل 8 في سد الفرات الذي كان يزود سوريا بـ70 بالمائة من الكهرباء.
ومع ذلك، لم يتوقف دعم دمشق لـ”العمال الكردستاني”، فهددت أنقرة بضرب معسكرات البقاع اللبناني لمقاتلي الحزب، لكن وزارة الخارجية التركية فضّلت الضغط على دمشق عبر الولايات المتحدة، في فترة المفاوضات السورية الإسرائيلية المشهورة بـ”وديعة رابين”.
ووضعت المخابرات السورية خطة لضرب السدود التركية في حال قصفت معسكرات البقاع والقواعد الكردية فيه.
الرئيس بيل كلنتون، أثناء لقائه بحافظ الأسد في جنيف لإطلاق مفاوضات سورية إسرائيلية في 1994، طلب من الأسد نقطتين محددتين: معرفة مصير الطيار الإسرائيلي رون آراد، ووقف نشاط العمال الكردستاني، في حين طالب الأسد بالمقابل بفتح موضوعي إيران وليبيا. حافظ الأسد لم يناقش حينها ملف “العمال الكردستاني”.
اتفاق أضنة 1998: مغادرة أوجلان لسوريا
رغم التوقيع على الاتفاق الأمني/العسكري بين هيئتي أركان تركيا واسرائيل، في العام 1996 كنتيجة للتقارب الذي ساد في عهد رئيسة الوزراء تانسو تشلير، فقد حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز تجميد العمل به أثناء التفاوض مع حافظ الأسد، قبل أن يُكشف مع فشل التفاوض. في العام 1997 أرغمت الضغوط نجم الدين أربكان، الذي كان يحاول التوسط بين حافظ الأسد والإخوان المسلمين، على الاستقالة. وتألفت وزارة جديدة بقيادة مسعود يلماز، وأطيح به في تشرين الثاني 1997. فتألفت حكومة أقلية بزعامة بولنت أجاويد، وواجهت رفع مستوى عمليات “العمال الكردستاني” إلى معدلات خطيرة، تسببت حتى العام 1999 بمقتل 35 ألف تركي، وخسارة مليارات الدولارات.
وسهّل النظام السوري على خصوم وأعداء تركيا: اليونان وأرمينيا وروسيا، دخول خط دعم “العمال الكردستاني”، الذي أقام قاعدة سياسية للدعم في أوروبا.
في أيلول 1998 حشدت تركيا 10 آلاف جندي تركي، وخطب قائد القوات البرية التركية مهددا سوريا من الريحانية: :تركيا ستتخذ الإجراءات المناسبة”.
دخل المصريون للعب دور الواسطة بين الطرفين، وأكد الأتراك لهم أن التحالف مع إسرائيل ليس موجهاً ضد سوريا. واكتشف حافظ الأسد في تلك الفترة أن الاتحاد السوفياتي بات واهناً، وأن التهديدات التركية جدية، وأن أميركا تستعد لتوجيه ضربة جديدة للعراق، لذا فضّل القبول بالوساطة العربية لحل الأزمة مع تركيا.
وزير الخارجية المصري عمرو موسى، توسّط لعقد تسوية بين الطرفين، يُبعد فيها أوجلان من سوريا، وتبدأ فيها مفاوضات أضنة الأمنية بين سوريا وتركيا على أعلى المستويات.
المفاوضات الشاقة انتهت بتوقيع اتفاق أضنة في 20 تشرين الأول 1998، وانبثقت عنه لجنة أمنية مشتركة تنعقد دورياً وكلما دعت الضرورة. وأُبعد أوجلان من سوريا إلى روسيا، ومنها إلى ايطاليا، وبعدها إلى كينيا حيث اختطفته المخابرات التركية في العام 1999. ومن سجنه التركي، في العام 2000 أعلن أوجلان انهاء العمل بالكفاح المسلح، قبل أن يتجدد القتال في العام 2004.
نص اتفاق أضنة الأمني:
1ـ إن سوريا، وعلى أساس مبدأ المعاملة بالمثل، لن تسمح بأي نشاط ينطلق من أراضيها بهدف الإضرار بأمن واستقرار تركيا. كما ولن تسمح سوريا بتوريد الأسلحة والمواد اللوجستية والدعم المالي والترويجي لأنشطة حزب العمال الكردستاني على أراضيها.
2ـ لقد صنفت سوريا حزب العمال الكردستاني على أنه منظمة إرهابية. كما وحظرت أنشطة الحزب والمنظمات التابعة له على أراضيها، إلى جانب منظمات إرهابية أخرى.
3ـ لن تسمح سوريا لحزب العمال الكردستاني بإنشاء مخيمات أو مرافق أخرى لغايات التدريب والمأوى أو ممارسة أنشطة تجارية على أراضيها.
4ـ لن تسمح سوريا لأعضاء حزب العمال الكردستاني باستخدام أراضيها للعبور إلى دول ثالثة.
5 ـ ستتخذ سوريا الإجراءات اللازمة كافة لمنع قادة حزب العمال الكردستاني الإرهابي من دخول الأراضي السورية ، وستوجه سلطاتها على النقاط الحدودية بتنفيذ هذه الإجراءات.
اتفق الجانبان على وضع آليات معينة لتنفيذ الإجراءات المشار إليها أعلاه بفاعلية وشفافية.
وفي هذا السياق:
أ) ـ سيتم إقامة وتشغيل خط اتصال هاتفي مباشر فوراً بين السلطات الأمنية العليا لدى البلدين.
ب) ـ سيقوم الطرفان بتعيين ممثلين خاصين [أمنيين] في بعثتيهما الديبلوماسيتين، وسيتم تقديم هذين الممثلين إلى سلطات البلد المضيف من قبل رؤساء البعثة.
ج) ـ في سياق مكافحة الإرهاب، اقترح الجانب التركي على الجانب السوري إنشاء نظام من شأنه تمكين المراقبة الأمنية من تحسين إجراءاتها وفاعليتها. وذكر الجانب السوري بأنه سيقدم الاقتراح إلى سلطاته للحصول على موافقة، وسيقوم بالرد في اقرب وقت ممكن.
د) ـ اتفق الجانبان، التركي والسوري، ويتوقف ذلك على الحصول على موافقة لبنان، على تولي قضية مكافحة حزب العمال الكردستاني الإرهابي في إطار ثلاثي [أخذا بعين الاعتبار أن الجيش السوري كان لم يزل في لبنان، وكان حزب العمال يقيم معسكرات له في منطقة البقاع اللبناني الخاضعة لنفوذ الجيش السوري].
هـ)ـ يلزم الجانب السوري نفسه باتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ النقاط المذكورة في “محضر الاجتماع” هذا وتحقيق نتائج ملموسة.
الملحق رقم 2 : مطالب تركيا المحددة من سوريا
من أجل تطبيع علاقاتنا، نتوقع من سوريا الالتزام بالقواعد والمبادئ الأساسية للعلاقات الدولية. وفي هذا الصدد، ينبغي تحقيق المطالب المحددة التالية:
1ـ نظرا لحقيقة أن العلاقات التركية السورية كانت قد تضررت بشكل جدي بسبب الدعم السوري للإرهاب، نريد من سوريا القبول رسميا بالتزاماتها والتخلي عن موقفها السابق بشأن هذه المسألة. ويجب أن تشمل هذه الالتزامات تعهداً رسمياً بعدم منح الإرهابيين الدعم، أو الملاذ أوالمساعدة المالية. وينبغي أيضا على سوريا محاكمة مجرمي حزب العمال الكردستاني وتسليمهم إلى تركيا، بما في ذلك زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان ومعاونوه [كانت سوريا أبعدت أوجلان قبل توجه عدنان بدر حسن إلى تركيا، وقد تلقت السلطات التركية إشعارا من موسكو بوصوله فعلا إلى أراضيها].
2ـ في هذا الإطار، يجب على سوريا:
ـ أن لا تسمح لمخيمات تدريب الإرهابيين بالعمل على الأراضي الواقعة تحت سيطرتها؛
ـ أن لا تزود حزب العمال الكردستاني بالأسلحة والمواد اللوجستية.
ـ أن لا تزود أعضاء حزب العمال الكردستاني بوثائق هوية مزورة.
ـ أن لا تساعد الإرهابيين على الدخول القانوني والتسلل إلى تركيا.
ـ أن لا ترخص الأنشطة الترويجية [ الدعائية] للمنظمة الإرهابية [ المذكورة].
ـ أن لا تسمح لأعضاء حزب العمال الكردستاني بإنشاء وتشغيل مقرات على أراضيها.
ـ أن لا تسهل عبور الإرهابيين من دول ثالثة (أوروبا، اليونان، قبرص الجنوبية، إيران، ليبيا، أرمينيا) إلى شمال العراق وتركيا.
3ـ التعاون في جميع الأنشطة الرامية إلى مكافحة الإرهاب.
4ـ الامتناع عن تحريض البلدان الأخرى الأعضاء في جامعة الدول العربية ضد تركيا.
5ـ في ضوء ما سبق، وما لم توقف سوريا هذه الأعمال فوراً، مع كل العواقب، تحتفظ تركيا بحقها في ممارسة حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس، وتحت كل الظروف للمطالبة بتعويض عادل عن الخسائر في الأرواح والممتلكات.
الملحق رقم 3
اعتبارا من الآن، يعتبر الطرفان أن الخلافات الحدودية بينهما منتهية، وأن أيا منهما ليس له أية مطالب أو حقوق مستحقة في أراضي الطرف الآخر.
الملحق رقم 4
يفهم الجانب السوري أن إخفاقه في اتخاذ التدابير والواجبات الأمنية، المنصوص عليها في هذا الاتفاق، يعطي تركيا الحق في اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية اللازمة داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم.
المصدر: المدن