إسماعيل جمال
بعد أن كان الحديث يجري عن انسحاب كامل للقوات الأمريكية من سوريا سوف يؤدي بشكل حتمي لسحب القوات الفرنسية أيضاً، تتجه الإدارة الأمريكية نحو سيناريو آخر يتمثل في إبقاء مئات الجنود الأمريكيين لتشجيع دول أوروبية أخرى لإرسال قوات إلى المنطقة بهدف أساسي يتمثل في توفير الحماية لوحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها تركيا تنظيماً إرهابياً وتهديداً مباشراً على أمنها القومي.
وبدلاً من الحديث عن إقامة “منطقة آمنة” طالبت تركيا أن تكون السيادة فيها لها وحدها، يميل التصور الأمريكي الأخير إلى سيناريو “منطقة عازلة” يكون هدفها الفصل بين القوات التركية والوحدات الكردية وبالتالي حماية هذه القوات من أي هجوم عسكري تركي محتمل.
ورغم أن تركيا لم تعقب بعد بشكل مباشر على مؤشرات نشر قوات أمريكية أوروبية تحت عنوان “قوات حفظ سلام” في شرقي نهر الفرات، إلا أن التصريحات حول اللقاءات والاتصالات السياسية والعسكرية المتواصلة بين الجانبين تشير بوضوح إلى أن الفجوة ما زالت شاسعة جداً بينهما وأن المفاوضات لم تصل إلى تصور نهائي متفق عليه لمستقبل المنطقة.
وعقب الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب اردوغان، مساء الخميس، قال البيت الأبيض إن الرئيسين اتفقا “على مواصلة التنسيق فيما يتعلق بإنشاء منطقة آمنة محتملة في سوريا” فيما قالت الرئاسة التركية إن الرئيسين “اتفقا على تنفيذ قرار الانسحاب من سوريا، بما يتماشى مع المصالح المشتركة ودون الإضرار بالأهداف المشتركة” وهي صيغة متقارنة تؤشر بشكل واضح إلى عدم وجود اتفاق نهائي بعد، ما يعني استمرار الخلافات.
وعلى الرغم من أن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار ورئيس الأركان يشار غولر أجريا مباحثات عسكرية رفيعة المستوى في واشنطن يومي الجمعة والسبت، إلا أن تصريحات تشير إلى أن الخلافات ما زالت قائمة وبقوة بين الجانبين. وقال أكار إنه أكد على “مسألة عدم ترك فراغ في السلطة أثناء الانسحاب” مشيراً إلى ضرورة عدم التأخير في تطبيق اتفاق منبج، دون أي حديث أو مؤشرات على توافق حول ملف الانسحاب.
وفي تحول جديد بقرارات الإدارة الأمريكية المضطربة، أعلن ترامب قراره الإبقاء على 400 جندي في سوريا، لكنه أصر على اعتبار أن ذلك لا يعني تغييراً على ما أعلنه في كانون الأول/ديسمبر الماضي. لافتاً إلى أن هذه القوات سيكون نصفها في قاعدة التنف والنصف الآخر سيكون “قوة حفظ سلام في المنطقة الآمنة”، التي يجري التفاوض حولها.
وقالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) إن واشنطن ستبقي بضع مئات من جنودها شمال شرقي سوريا، كجزء من قوة دولية لإقامة منطقة آمنة، موضحاً أن “قوة المراقبة المتعددة الجنسيات ستضمن إرساء الاستقرار في المنطقة الآمنة مع القوات الأمريكية، وتمنع عودة تنظيم داعش، وستتشكل بالدرجة الأولى من حلفاء الناتو”، دون تحديد أسماء الدول التي ستشارك في تلك القوة.
وكالة “الأناضول” التركية نقلت عن مسؤول بالبنتاغون، قوله إن القوات التركية وقوات سوريا الديمقراطية “لن تدخل المنطقة الآمنة” المزمع إقامتها من قبل الولايات المتحدة مع قوات دولية، على الرغم من أن أنقرة طالبت مراراً بأن تكون تلك المنطقة تحت سيطرتها الكاملة.
السيناتور الأمريكي النافذ ليندسي غراهام تحدث لأول مرة عن أن خطة ترامب للانسحاب تهدف إلى الدفع باتجاه نشر ما يصل إلى ألف جندي أوروبي، لافتاً بشكل واضح إلى أن القوات الأمريكية التي ستبقى هي لتحفيز الأوروبيين على نشر عدد أكبر من القوات، وقال: “الـ200 جندي أمريكي سيجذبون ربما ألف جندي أوروبي” معتبراً أن تهديد داعش مرتبط بالأوروبيين وبالتالي عليهم تحمل 80 في المئة من العبء في محاربة التنظيم.
لكن الأخطر بالنسبة لتركيا قول غراهام أنه يتحدث إلى ترامب “باستمرار” بشأن الانسحاب وأقنعه بضرورة إقامة منطقة عازلة لحماية الوحدات الكردية من هجوم تركي محتمل.
في السياق عبر رئيس الأركان الأمريكي الجنرال جو دانفورد عن قناعته بأن الأوروبيين يمكن أن يشاركوا في هذه القوة بعدما وافقت الولايات المتحدة على إبقاء بعض العسكريين، مشيراً إلى أن “الهدف مزدوج وهو مواصلة جهود مكافحة الإرهاب لمنع عودة تنظيم الدولة وكذلك عدم التخلي عن الأكراد في قوات سوريا الديمقراطية”.
ومع جميع المعطيات السابقة، يبدو أن أنقرة تنتظر اكتمال الصورة لإعلان موقفها النهائي من التصورات الجديدة لإدارة ترامب، إلى جانب الحصول على خلاصات نهائية من وزير الدفاع ورئيس الأركان عقب عودتهم من واشنطن.
وفي أكثر من مرة شدد مسؤولون أتراك على رفضهم أن يكون مقترح المنطقة الآمنة يهدف ضمنياً إلى إقامة منطقة عازلة لحماية وحدات حماية الشعب الكردية، ورفضوا بقاء القوات الفرنسية في المنطقة عقب انسحاب القوات الأمريكية.
ويبقى احتمال ضئيل أن تتوصل أنقرة وواشنطن إلى اتفاق ينص على قبول أنقرة بنشر قوات أمريكية وأوروبية في منطقة آمنة شرقي نهر الفرات مع تقديم تعهدات وخطوات فعلية على الأرض تأخذ بعين الاعتبار مخاوفها الأمنية والاستراتيجية المتعلقة بدرجة أساسية بإمكانية إقامة كيان انفصالي كردي.
ويمكن ذلك من خلال تطبيق خطوات أشبه باتفاق منبج الذي لم ينفذ فعلياً على الأرض بعد وذلك بالاتفاق على سحب الأسلحة الثقيلة من الوحدات الكردية، وإعادة تركيبها بتعزيز العناصر المحلية فيها مع طرد العناصر القيادية المرتبطة بتنظيم “بي كا كا”.
لكن الاحتمال الأكبر يبقى في اتجاه صعوبة التوصل لاتفاق مرضي لأنقرة مع الجانب الأمريكي، وبالتالي يمكن أن تعود الخلافات إلى الواجهة مجدداً وبقوة الأمر الذي سيعيد التهديدات التركية بالتحرك عسكرياً على الأرض وهو ما يمكن أن يحصل فعلياً في حال تيقنت تركيا أن القوات الأوروبية ستكون مهمتها الأساسية حماية الوحدات الكردية وربما مساعدتها على إقامة كيان انفصالي.
المصدر: القدس العربي