شارلز ليستر
مع استكمال قوات سوريا الديمقراطية هزيمتها الإقليمية لفلول تنظيم «داعش» الإرهابي في قرية الباغوز شرق سوريا، يبدو أن الاهتمام العالمي بتهديدات «داعش» بات في تراجع واضح.
وعلى نحو مماثل، مع واقع بقاء بشار الأسد على رأس السلطة من المسلمات التي لا رجعة فيها، تحولت أنظار العالم عن الأزمة السورية لتعيد النظر والتركيز على مسائل وقضايا أخرى. ومع أن العالم المعاصر أبعد ما يكون عن السهولة والبساطة، فإن الحقيقة الدامغة بشأن «داعش» تفيد بأن التنظيم لا يزال من أخطر التنظيمات الإرهابية في الواقع السوري والعراقي حتى لحظة كتابة هذه السطور، باستثناء واحد وهو فقدانه الأراضي التي كانت تحت سيطرته قبلاً، وأن الصراع ممتد النطاق في سوريا أبعد ما يكون عن الانتهاء كذلك، بل إن سبل عدم الاستقرار هناك باتت أكثر مما يمكن التنبؤ به في الحقيقة.
وفي خضم هذا المحيط من الاهتمامات المتحولة والديناميات المتفاعلة، يبدو أن الولايات المتحدة فقدت بوصلة الاتجاهات. وفيما يتعلق بسوريا، أمر ترمب أول الأمر بالانسحاب الكامل للقوات الأميركية، ثم عاد ليعكس مساره ووجه الأوامر ببقاء 400 جندي فقط. وتشير التقارير الإخبارية من مصادر أخرى إلى أعداد أكبر من القوات الأميركية في سوريا وهي لا تعدو مجرد التكهنات التي ينقصها الدليل في المرحلة الراهنة.
ومن المتوقع لسياسة «القوة العسكرية المتبقية» في سوريا – مع 200 جندي باقٍ في التنف، وأكثر من 200 جندي آخرين موزعين على الجبهتين الشرقية والشمالية الشرقية من البلاد – أن تلاقي مصير الفشل رغم كل شيء، إذ يتطلب الأمر زيادة كبيرة في التدخل العسكري الأوروبي على الأرض في سوريا، الأمر الذي تعارضه كل من لندن، وباريس، وبرلين كل المعارضة. ولما وراء الحرب ضد تنظيم «داعش»، يبدو أن الولايات المتحدة قد فقدت أيضاً معظم نفوذها لما يتعلق بالقضايا السورية واسعة النطاق، سيما العملية السياسية الراهنة. وعلى الصعيد العراقي المجاور، تواجه الولايات المتحدة الضغوط المتزايدة من داخل البرلمان العراقي بشأن سحب قواتها العسكرية تماماً من البلاد، الأمر الذي يوهن من القبضة الأميركية الحاكمة على المسائل الإقليمية الشائكة في المنطقة.
ويثير الوضع الراهن للأمور القلق في أفضل الأوقات. وباتت الحاجة ماسّة أكثر من أي وقت مضى إلى الدور الأميركي الواضح، والقوي، والبنّاء في سوريا والعراق. ربما فقد «داعش» مناطقه المزعومة إلى غير رجعة، لكن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً إرهابياً وعسكرياً قائماً. وتشير التقديرات الاستخباراتية الأميركية إلى وجود ما يقرب من 15 إلى 20 ألف مقاتل من مقاتلي «داعش» نشطين وموزعين عبر أرجاء العراق وسوريا كافة.
وتشهد هجمات «داعش» العراقية تصاعداً مستمراً في كل شهر على مختلف المدن والمحافظات، إضافة إلى العديد من السيارات المفخخة التي انفجرت في مدينة الموصل في الأسابيع القليلة الماضية، تلك المدينة التي لا تزال تشهد وجوداً واضحاً لعناصر التنظيم الضالعة في شبكات العنف والابتزاز الموسعة، وهناك ما لا يقل عن 1000 من مقاتلي «داعش» قد وصلوا مؤخراً إلى محافظة الأنبار العراقية قادمين من سوريا، يحملون بحوزتهم ما يوازي 200 مليون دولار من الدعم المالي، كما أفادت التقديرات.
وفي سوريا نفسها، تتصاعد هجمات عناصر التنظيم الإرهابي مع شبكات الخلايا النائمة التي يجري تنشيطها ببطء واضح، مع نقاط التفتيش المسائية المنتشرة في غير موضع من محافظة دير الزور وبصفة يومية، مما يفيد بأن هذا ليس الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن تبدو عليه الجماعة المنهزمة عسكرياً على الإطلاق.
وتجعل الإطلالة السريعة على البيانات ذات الصلة بالحملة على «داعش» من التحديات الراهنة أكثر إثارة للقلق والشواغل. إذ يحتجز العراق في الوقت الراهن نحو 20 ألفاً من السجناء ذوي الصلة بـ«داعش»، مع 20 ألفاً آخرين محتجزين في سوريا، ومن المقرر نقلهم إلى العراق خلال الأسابيع القادمة. وهناك عشرات الآلاف من المواطنين المدنيين ذوي الصلات غير المحكمة بالتنظيم الإرهابي يعيشون داخل مخيمات المشردين داخلياً بالعراق، في حين أن هناك عشرات الآلاف من الأطفال العراقيين لا يزالون من دون جنسية محددة مع رفض حكومة بغداد المستمر الاعتراف بمولدهم تحت حكم «داعش» السابق.
وفي سوريا، هناك أكثر من 100 ألف مواطن ممن عاشوا تحت حكم «داعش» لا يزالون قابعين الآن في مخيمات المشردين داخلياً، مع 77 ألفاً آخرين قادمين من قرية الباغوز، وهي آخر معاقل التنظيم الإرهابي المحررة في البلاد. إضافة إلى 7 آلاف من مقاتلي «داعش»، بما في ذلك ألف من المقاتلين الأجانب، محتجزين داخل سجون قوات سوريا الديمقراطية، غير أن قيادة قوات سوريا الديمقراطية قد حذرت من أنها لن تتمكن من الاحتفاظ بهم لفترة أطول من الوقت. وأسفرت هذه الضغوط الشديدة على موارد قوات سوريا الديمقراطية عن إطلاق سراح المئات من مقاتلي التنظيم الإرهابي صوب شرق سوريا، فيما عُرف إعلامياً باسم «صفقات العشائر». وتشير الأرقام المذكورة إلى كل شيء باستثناء نهاية التنظيم الإرهابي. وفي واقع الأمر، يبدو أن تهديد «داعش» سيظل يرافقنا في تلك المنطقة المنكوبة لجيل آخر أو ربما جيلين.
وبعيداً عن تنظيم «داعش»، يبدو أن تجربة تنظيم «القاعدة» في سوريا أسفرت عن تطور التنظيم الإرهابي بغير وسيلة من الوسائل، بحيث إنه بات يشكل تحديات وتهديدات متعددة للأمن على الصعيدين الإقليمي والدولي. وعلى الرغم من انفصال «هيئة تحرير الشام» فعلياً عن أي ولاء يربطها بالتنظيم الأم (القاعدة)، فإنها تبدو على نحو متزايد مثل «حركة طالبان الشامية» التي تسعى كل السعي لنيل الاعتراف السياسي. ورغم أن الأوضاع في إدلب صارت أكثر تعقيداً وفوضوية، فإن نفوذ «هيئة تحرير الشام» هناك كبير للغاية ويعتمد بشكل أساسي على حماية الدول الأجنبية المعنية. وفي حين أن «هيئة تحرير الشام» قد أثبتت القيمة المحلية والعملية لما يسمى القتال، فإن تنظيم «القاعدة» قد تمكن من إعادة اكتشاف الذات وأيام الزعيم الأول أسامة بن لادن عبر ما يسمى تنظيم «حراس الدين» الذي يحوّل ناظرَيه بنحو شبه مؤكد صوب استهداف «العدو البعيد» أولاً – وفق ما تفيد به أدبيات التنظيم – مما يجدد تهديدات التنظيم الأم وحياكة المؤامرات ضد الولايات المتحدة، أو أوروبا، أو حكومات بلدان الشرق الأوسط. وحتى الآن، فإن هذا التهديد ينطلق في مساره من دون ضابط يضبطه.
ثم نجد إيران التي تملك مجموعة واسعة من الميليشيات في العراق وسوريا، التي عند دمجها معاً فإنها تشكل ما مجموعه أكثر من 100 ألف مقاتل شيعي يشكّلون الهياكل الأمنية الموازية والقادرة على التأثير الكبير على سياسات الحكومة في بغداد ودمشق ربما لسنوات قادمة. ونجح ظهور ثم تطور هذه الميلشيات، أي الجيش الإيراني الإقليمي شبه النظامي، في إحداث تحولات جذرية في تفاعلات وتوازنات القوة والنفوذ السياسي في منطقة الشرق الأوسط وبطريقة يمكن أن تزداد سوءاً بمرور الوقت إذا ما سُمح لأمثال «داعش»، وهيئة تحرير الشام، وحراس الدين، وبشار الأسد، والميليشيات الإيرانية، بالبقاء، أو الاستمرار أو الازدهار.
وتفادياً لبلوغ مرحلة السيناريو الأسوأ، أو على أقل تقدير، للتقليل من التحديات التي نواجهها بشأنه، لا بد من تآزر مختلف القوى متعددة الأطراف وراء قضية واحدة، مع توحيد الرسالة، وتوحيد العمل. وإننا نفتقر إلى مثل هذا التوحد في الآونة الراهنة بشكل كبير.
وقدر لا بأس به من اللوم ملقى على عاتق واشنطن في ذلك وسياساتها الخارجية المرتعشة فيما يتعلق بالمنطقة سيما وأن الأوضاع لا تزال أبعد ما تكون عن الاستقرار. وإن لم يكن الوصف الأمثل لمواقف الرئيس الأميركي الحالية هو «المرونة المفرطة» فلا أدري أي وصف يناسبه! ونجده يطالب الحلفاء في أوروبا بما لا يطيقون وبأكثر مما اعتدنا عليه قبلاً، مع أن ذلك يتيح للمجتمع الدولي فرصة سانحة لممارسة مزيد من التأثير على طريقة تفكير الرئيس الأميركي. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي لا ينظر إلى القضيتين السورية والعراقية من منظور الأهمية الاستراتيجية الكبرى، فالأمر بات متروكاً لحكومات الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي لإقناعه بخلاف ذلك، إن نجحوا! فإن أخفقنا في هكذا مهمة، فلن نجني سوى الخسران فيما هو قادم في قابل الأيام. ولن يجني خصومنا إلا كل فائدة يستطيعون.
المصدر: الشرق الأوسط