محمد الحموي كيلاني
من الإنصاف التفريق بين العمل كأفراد تصدر له علماء دعوة وشريعة اتَّسموا بالوسطية والاعتدال وسعة الفكر والأفق، وبين الحركات الإسلامية التي تنحى منحى الأيدلوجيا والتبعية الفكرية أوالحزبية في بناها وآلياتها ونظامها الداخلي وتصورها السياسي والقيادي.
هذه الحركات صنفت نفسها كراعية متبصِّرة وحصرية فقاطعت المجتمع وفشلت في التعامل معه حين حولت نفسها إلى طائفة أكثر منها تياراً اجتماعياً يعبر عن إرادة الناس وآرائهم.
ثم بنت حول نفسها سورا طوّقها وفرق بينها وبين تطلعات الناس في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، فلم تُطور نفسها تنظيميا ولا فكريا، ولا وسّعت قاعدتها اجتماعيا، ولا هي فعَّلت دورها من داخل الأنظمة لتبني كتلة تهدم هذه الأنظمة من داخلها، ولا عملت من خلال القنوات المتاحة باستخدام المال والإعلام.
الدعوة منطقها الاكتساب ومنطق السياسة قائم على المغالبة
لم تستوعب هذه الحركات ضرورة التمييز بين الدعوة والسياسة، وهذا لا يعني الفصل بين الدين والدولة فالدعوة منطقها الاكتساب ومنطق السياسة قائم على المغالبة.
وللاكتساب طريق طويل من فهم للنصوص واستعراض للواقع والحداثة والمتغيرات، والحد من النهج الخاطئ والسائد لدى معظم هذه الحركات حين تريد تحويل الأخلاق التي تمثل النسبة العالية في الإسلام إلى تشريعات، دون الانتباه بأن سلطة الضمير أعلى من سلطة القانون.
ومنطق السياسة في تقديم الأفضل وما يصلح للناس للمشاركة بأي فرصة انتخابية، وخوض معركة الانتخابات التي يقررها الشعب وحده. وإلا فإن الخلط بين الدعوة والسياسة سيفقدها احتضان الشعب والتفافه والحوار معه..
وبالتالي حين نستشهد بنصف الحقيقة فإننا نخدع الناس باسم الدين.. وكل أخطائنا وجناياتنا نعلقها على مناط الدين كذبا وبهتانا أو جهلا وتعاميا.
هذه النرجسية المتجلية في الجهل المتراكم والمتصلب حين نقرأ فقط ما يتناسب مع أفهامنا وما يتناسب مع أهدافنا ستُحدث فجوة ونفوراً صارخاً. وهذا ما تعانيه وستعانيه لاحقا ومجدداً تلك الجماعات المنفصلة عن الواقع تماما.
ثم إنها لم تضبط الخطاب الذي يتناسب مع الحالة الإقليمية والدولية ومنظومة الأمم، مما ساهم في الدعاية العالمية والحشد ضد هذا الفكر وهذه الجماعات، واعتبارها جميعا جبهة متماسكة في عقد واحد وإدارة موحدة، وإن كانت الحقيقة غير هذا، إلا أنها انحنت لعواصف من التشويه والاختراقات، عملت على افتعالها فروع أمن الأنظمة الاستبدادية ومخابراتهم وإعلامهم وتسخير كل الطاقات في مواجهتهم.
لم يقدم حتى الآن نموذجا يطمئن الناس، سوى إن اعتبرنا التجربة التركية نموذجا مهما فحزب العدالة والتنمية الحاكم ابن حركة إسلامية لا ريب، لكنه مرَّ بسنوات أليمة وصراعات طويلة طوّرت أداءه وخطابه ومشروعه الديمقراطي الوطني الذي لا يتنافى مع الدين، ولا يتصادم مع المجتمع المتعدد، وتصالح مع الدولة التي تضمن الحقوق دون تمييز أو تفاوت بين جميع المواطنين مسلمين وغير مسلمين، دولة يحميها القانون والدستور ويحمي المساواة السياسية والمدنية. مع مراعاة مسألة العامل الجغرافي الذي عليه تتأسس الدول، والعقد الاجتماعي الذي تتأسس عليه المجتمعات الحديثة، فتجلت تجربةً حيةً نهضت بالدولة والمجتمع خلال سنوات قليلة.
وفي المقابل فإن هذه الحركات اصطدمت مع واقع الحكومات الدكتاتورية المتسلطة والتي تحارب أي تجربة إسلامية تقترب من السلطة، ولو أن َّهناك انتخابات حرة نزيهة لكان للإسلاميين فرصة كبيرة في الوصول للسلطة، ثم تعميم مفهوم المؤامرة والفوبيا إسلام لدى الإرادة الدولية والقوى الكبرى التي تحارب أي مشروع إسلامي يلامس النجاح، وقد كشَّروا عن أنيابهم وتحقَّق لهم ما أرادوا باستخدام الدول الاستبدادية والوظيفية في دعم الثورات المضادة في العالم العربي والشواهد الأبرز في مصر وسوريا وليبيا، ودعم انقلاب الخامس عشر من تموز سنة 2016 في تركيا.
تنظيم الإخوان المسلمين في مصر قدم نموذجاً اجتماعيا محبباً عند كثير من المصريين
ثمَّ ألا يُؤخذَ بعين الاعتبار ما عمله تنظيم الإخوان المسلمين في مصر الذي قدم نموذجاً اجتماعيا محبباً عند كثير من المصريين من خلال الدعوة الوسطية من جهة، ومن جهة أخرى تتعلق بالجمعيات الخيرية والتنموية وما يُعنى بخدمة الناس إلى زمن.
وبأنّ الحركات الإسلامية لا تجمل في بوتقة واحدة، وعلى الناقد أن يكون موضوعيا ومنصفا وكلٌّ يُسأل عن تنظيمه أو حزبه.
وإن حسن البنا كان يقول: “العلاقة التي بين هذه التيارات الإسلامية المتنوعة يجب أن تكون الحب والإخاء والتعاون والولاء، وأن تجتمع على الأهداف والمقاصد الكبرى”، فلا ندري أمنظريهم اليوم يقصدون بالحركة الإسلامية تنظيم الإخوان المسلمين بما فيه من تيارات واتجاهات أم يقصدون الحركات الإسلامية الأخرى مع تنظيمهم من سلفية جهادية وسلفية علمية، الصوفية، الدعوة والتبليغ وغيرها ؟.
لا يعني السرد آنف الذكر وإن كان شديداً في لهجته تجاهل تطور الخطاب في حركات الإسلام السياسي ، والسعي الدؤوب لأخذ الدور الإيجابي في خضم الصراعات الدائرة مع أنظمة الاستبداد من جهة ، والدعاية العالمية والقوى العلمانية واليسارية من جهة أخرى ، فهم فاعلون سياسيون ولهم دورهم شأنهم شأن القوى الوطنية الأخرى ، إلا أنَّ هذا الدور ربما يحتاج لعقود ليقوِّم نفسه على أن شكل العالم تغير ، وتبدل مفهوم الأنظمة القديمة ، وبأنَّ الشعوب تطوّر فكرها وتحررت من تقديس الأشخاص وزمن الملك والعبيد ، وبأن السياسة علم ٌ وممارسة ، وفهم الواقع وفن الممكن ، والمشاركة الحقيقية مع القوى الحاضرة والفاعلة في دولة القانون والمواطنة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا