قديماً، كان لقب “قيصر” يُعطى للملوك. أمّا في القرن الـ 21، فأُعطي لمجهول وثّق بعدسته نحو 55 ألف صورة لضحايا التعذيب في سجون النظام السوري، جعل منهم بشار الأسد أعمدة لـ”مملكته”. الرجل المجهول الذي استخدم وظيفته كمصوّر في الشرطة العسكرية السورية لكشف جرائم النظام، أصبح عنواناً لـ”قانون قيصر” الأميركي الذي وقّعه الرئيس دونالد ترمب في الـ20 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بغية محاسبة المسؤولين في نظام الأسد عن جرائم القتل والتعذيب.
غير أن “قيصر” بقي اسماً مستعاراً لرجل بقي مجهولاً حتى اليوم، وقد يظلّ دائماً. لكنّ موقع “العربية.نت” وصل إليه وإلى شريكه سامي، وهو اسم مستعار أيضاً، وحاورهما ليكشفا عن قصّة رحلتهما في فضح جرائم النظام السوري. ويوضح الموقع في تقرير نشره الجمعة 27 ديسمبر، أنه وصل إلى الرجلين عبر معاذ مصطفى، المدير التنفيذي لفريق عمل الطوارئ السورية في الولايات المتحدة وأحد المقرّبين جداً من “قيصر”.
وفي مقابلتهما الحصرية مع “العربية.نت”، كشف “قيصر” وشريكه سامي، الذي عمل على توثيق صور زميله وحفظها، عن تفاصيل مغامرتهما لكشف الجرائم الإنسانية المرعبة التي ارتكبها نظام الأسد بحق المدنيين الثائرين على الظلم والقمع.
من 15 جثة إلى 55 ألفاً
صداقة “قيصر” وسامي تعود إلى ما قبل الثورة السورية التي اندلعت في مارس (آذار) 2011. صداقة توطّدت خلال الثورة نتيجة تعاون الرجلين الوثيق والبالغ السرية. يروي “قيصر” لـ”العربية.نت” أن مهّمته بدأت مع اندلاع التظاهرات السلمية في العاصمة دمشق وامتدادها إلى محافظة درعا، إذ كُلف مصوّرو الشرطة العسكرية تصوير حوادث معينة وحالات وفاة. ويضيف “في مهمّتي الأولى، صوّرت قرابة 15 جثة في مستشفى 601 العسكري بمنطقة المزة. لاحظتُ أن الضحايا تعرّضوا للتعذيب. في تلك اللحظة، قررتُ الانشقاق فوراً ومغادرة البلاد”.
غير أن الرجل تراجع عن قراره، بعدما تشاور مع سامي وقرّرا التعاون لتوثيق الجرائم في صور بلغ عددها نحو 55 ألف صورة “لضحايا بينهم آلاف النساء والأطفال وكبار السن، تمّ تعذيبهم حتى الموت”، على حدّ قوله.
“أفظع أنواع التعذيب”
يصف التقرير الخوف الشديد الذي عاشه الرجلان أثناء عملهما الذي استمرّ عامين ونصف العام. ويروي سامي كيف تعرّض أحد البيوت التي استخدمها أثناء توثيق الصور للمداهمة ومصادرة أجهزة حاسوب كانت في داخلها، لكن لحسن الحظ، لم تكن تحتوي على معلومات عن عملهما ولم يشكّ النظام بأمرهما. ويوضح سامي أنه حرص على اتخاذ “الإجراءات الكفيلة بوصول الصور إلى من يستطيع نشرها وفضح النظام في حال موتي أو اعتقالي”.
وعن الجرائم التي شاهدها “قيصر” بأم العين، يقول لـ”العربية.نت” إنه رأى “أفظع أنواع التعذيب” بحقّ “الضحايا الأبرياء. كنا نشاهد أعضاء مبتورة كأصابع اليد أو قلع العيون وجثثاً شبه محروقة أو كسر أسنان وآثار ضرب بكابلات كهربائية، وأجساماً ضعيفة وهزيلة نتيجة التجويع المتعمّد لأشهر وربما سنوات”.
إدارة أوباما تعرقل
وبعدما تخطّت الصور في جعبة الرجلين الـ55 ألفاً، غادرا دمشق في أغسطس (آب) 2013 متّجهين إلى أوروبا، حيث شرعا بالعمل بغية معاقبة المسؤولين في النظام السوري عن أعمال التعذيب بحق المدنيين. ولم تكن رحلة الاستحصال على “قانون قيصر” بالسهلة، إذ يؤكّد الرجلان أن تحديات كثيرة واجهتهما، وأبرزها معارضة إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لإدلاء “قيصر” بشهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب. فتلك الإدارة حاولت تأخير إعطاء قيصر “تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة إلى وقت لا تُعقد فيه جلسات مجلس النواب”، كي لا يتمكّن من تقديم شهادته. غير أنّ الجهود الحثيثة للفريق الذي شكّله “قيصر” وسامي ومعاذ مصطفى، أوصلت الأول إلى واشنطن حيث استُمع إلى إفادته في 31 يوليو (تموز) 2014.
تفاجأ النواب الأميركيون، جمهوريون وديمقراطيون، بما شاهدوه من صور، وفق سامي الذي أضاف “كسوريين نعلم تماماً حجم الإجرام الذي يمارسه النظام، لكن لا يمكن إقناع الغربيين والأميركيين بوجهة نظرنا من دون حجة دامغة. لذلك، عرضنا الصور داخل الجلسة”.
قانون قيصر
ومذ ذاك، راح الفريق الذي ضمّ أوروبيين ومنظّمات سورية في الولايات المتحدة والسفير الأميركي السابق للجرائم ضد الإنسانية ستيفن راب، يعمل على إقرار مشروع قانون قيصر. وفي هذا الصدد، يقول مصطفى لـ”العربية.نت” إن الفريق ركّز على العمل القضائي، فتقدّم هو شخصياً بدعاوى عدّة أمام المحاكم الألمانية ضدّ النظام السوري، كما عمدت المجموعة إلى تنظيم معارض صور في عددٍ من البرلمانات، منها البرلمان الأوروبي والبريطاني والكندي والكونغرس الأميركي، تُظهر فظائع التعذيب الذي تعرّض له المعتقلون في السجون السورية.
وبعد الرحلة الشاقة للرجلين وفريقهما، نصّ “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين” على فرض عقوبات على النظام السوري وكل من يدعمه مالياً أو عينياً أو تكنولوجياً، من أشخاص ودول وشركات وكيانات، وعلى كلّ من يثبت تورّطه في ارتكاب جرائم إنسانية خلال سنوات الحرب السورية الثمانية. ويهدف القانون إلى حرمان النظام من الأموال التي يستخدمها لـ”تسعير حملة العنف والتدمير التي أودت بحياة مئات آلاف المدنيّين”، حسب ما جاء في بيان لوزارة الخارجية الأميركية.
الحرب السورية… مستمرة
ولا تزال سوريا تشهد حرباً مستمرّة منذ عام 2011، راح ضحيّتها أكثر من 370 ألف شخص وتشرّد نتيجتها ملايين السوريين داخل وخارج البلاد. وتتعرّض اليوم محافظة إدلب شمال غربي البلاد لهجوم من النظام وحليفته روسيا، اللّذين يمطرانها بالصواريخ بحملة مكثفة في الأيام الأخيرة. وقال مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، في بيان السبت 27 ديسمبر، إنه “بين 12 و25 ديسمبر، نزح أكثر من 235 ألف شخص من شمال غربي سوريا”، مشيراً إلى أن كثيرين منهم فروا من مدينة معرة النعمان وقرى وبلدات في محيطها، وجميعها باتت “شبه خالية من المدنيين”. وبذلك، تستمرّ معاناة اللاجئين السوريين داخل بلادهم وخارجها، مع تأخّر حل الأزمة.
المصدر: اندبندنت عربية