الماضي هو توأم المستقبل او شقيقه الاكبر ولأنه كذلك حسب الميثولوجيا والدراسات التاريخية فإننا اليوم على اعتاب ماضي متجدد في واقع مؤلم وكأن الاسطورة لم تمت بل عاشت وانجبت الروايات وانجبت الحاضر بكل افعاله المؤلمة والمحزنة جراء الحروب والدمار.
تقول الاسطورة اليونانية القديمة ان هناك اميرة فينيقية جميلة كانت ابنة لملك صور ويدعى أجيبور والمعلوم ان الفينيقيين (كنعانيو الساحل ) كانوا سكان سورية الطبيعية قديما وكان ذلك في حوالي ١٥٠٠ قبل الميلاد وسورية كانت تضم فلسطين وسورية ولبنان قبل التقسيمات والانقسامات .
هذه الفتاة التي مشت على شواطئ البحر الابيض المتوسط قبيل حوالي ٣٥٠٠ عام مع وصيفاتها حين لمحها الاله زيوس اله اثينا او اله جبل الاولمب على الضفة الشرقية من هذا البحر فاقترب منها بعد أن تحول الى ثور أبيض بقرون تشبه الهلال وجلس عند قدمي الاميرة التي شعرت بالخوف في بادئ الامر الا ان زيوس اخذ يقترب قليلا قليلا من الاميرة ويغريها كي ينزع الرهبة والخوف من قلبها فسارعت الى وضع يديها على جسده تداعب شعره الابيض حتى صعدت على ظهره وسار بها يشق الامواج بقرنيه وعبر بها من صور الى جزيرة كريت وما ان وطأت قدماه ارض الجزيرة حتى عاد الاله زيوس الى شكله الاصلي فاغراها مجددا واقبل عليها وتزوجها لينجب منها ثلاثة ابناء هذه اسطورة الاميرة اوروبا ابنة الساحل السوري الفينيقية التي اعطت لهذه القارة اسمها منذ اول التأريخ .
هذا الحب الذي خطفها الى الضفة الاخرى أشعل ذاكرة الاسطورة وأوقد نارها في هذا الزمن المخطوف من قوى الشر والطغيان.
اليوم بعد حوالي ٣٥٠٠ عام ونيف تقف اوروبا شاهدة على قوافل الهاربين من إله الموت والدمار في ضفة البحر الشرقية.
سائرين على درب آلام اللجوء التي خطتها الجدة الاولى عبر مراكب الموت المطاطية من ضفة الاناضول تلك التي اسس فيها أحد اخوة الاميرة مدينة حين خرج اخوتها للبحث عنها فوصل أحدهم الى الاناضول واسس كيليكية وكأنه اسس للهجرة الاخرى والاختطاف الاخير من جسد الوطن.
فبين قصة عشق واختطاف وبين اختطاف وعشق للهجرة يمارس السوري طقوس السعي بين الضفة والاخرى بحثا عن الحب والحياة التي يصنع افعالها الدمشقية والفينيقية اينما حل جسده ووطأت قدماه.
لم يكن ابناء لبنان او سورية وفلسطين مجرد لاجئين في هذه القارة المترامية بين الاولمب والجليد البعيد وان صدرت اصوات عنصرية سياسية ضيقة الافق ومنغلقة على كل ابواب التاريخ البشري فإن تلك الاصوات النشاز لا تعيق حركة التاريخ وزهر الياسمين والحياة من ان تمارس فعلها الكوني بالبقاء والعطاء.
فأهل اوروبا يدركون جيدا ان ابناء الشمس هم صناع للحياة والواقع الاوروبي شاهد على هذا العطاء الدائم وانا كأحد الواصلين الى هذه الارض اطالع عن كثب عبر وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة او عبر الحوارات التي تدور في اروقة مراكز التأهيل والاندماج الاجتماعي للاجئين كلها تتحدث بلغة اكثر من ايجابية ممزوجة بالحب لأبناء الفينيق .
فالسائر في شوارع برلين اليوم يشعر انه في شوارع دمشق ومقاهيها ومطاعمها المنبعثة من أركانها صوت القدود والايقاع الدمشقي الأصيل.
الى أبعد من ذلك قام السوريون في ألمانيا بتأسيس اول مكتبة عربية في برلين تضم الاف الكتب العربية والمترجمة بين ادب وسياسة وتاريخ وفلسفة وغيرها كما أنشأوا صحف ومجلات باللغة العربية تنشر بين وريقاتها حضارة للأدب وحكاية للتاريخ السرمدي.
وصول اللاجئين السوريين الى شواطئ اوروبا وشوارعها أحدث نقلة نوعية في كثير من المجالات المهمة على الساحة الاوروبية فقد قامت مؤخرا مؤسسات الانتاج السينمائي والتلفزيوني باستقطاب العديد من نجوم الشاشة السورية وهم كثر سواء في فرنسا او المانيا او ايطاليا والسويد كما قامت شركات اخرى بدبلجة وترجمة الاعمال الدرامية السورية الى اللغة الألمانية.
ناهيك عن معارض الفن التشكيلي والنحت والديكورات التي تقام على مدار السنة في اغلب المدن والعواصم الاوروبية واغلبها لمبدعين جاؤوا من ضفة الموت السوري اليومي الى اراضي اوروبا التي لم تنس انهم احفادها فاحتضنتهم بلهفة الأم الواقفة على عتبة منزل قديم في احد الاحياء التي ضاعت ملامحها بفعل آلة الحرب اليومية الممتدة منذ ثمان سنوات.
حرب مستعرة اطاحت بكل اعمال الكون على هذه الارض من حجر وشجر وبشر توزعوا بين مقابر جماعية حفرت على عجل لتأوي أكبر قدر من التراب المتساقط بفعل القنص والقصف والجوع.
وجثث اخرى لم ندرك معالم وجوهها وتفاصيل الجسد لفرط التعذيب المفتعل في اركانها حتى تغيرت اسماؤها الى أرقام لوغاريتمية تبحث عن عالم لتقصي الحقيقة في الجسد الضحية او تبحث عن وجه العدالة الهارب والمختبئ في أحد مراكز الامن واقبية الاستجواب.
يا لهذا الفعل المأساوي الذي شتت شمل الطين بين شرق العالم وغربه وبين قاع الارض وسطحها وبين اخ يناجي اخاه عبر الدعاء وأم تزور الملائكة أيكها لتحمل لها مرسال أمل سرابي الملامح عن ابنها المفقود فلا هو في حضن جدته اوروبا ولا هو في بطن الارض تحمي عظامه من البرد والرطوبة المتعفنة ورذاذ السارين ولا هو في اقبية المعتقل اهو على قيد الحياة ام مات ام على قيد الانتظار عند احدى المقاصل.
مأساة مركزة صارعت الموت بحثا عن الحياة وصارعت الحقد طلبا للحب وصارعت الوجود بحثا عن الخلود.
من بين هذه القوافل كانت تلك القوافل التي اتت تستنجد بأوروبا الجدة بحثا عن اله ينقذ الموت السريري لوطن اهلكه الطغيان وانهكته الدكتاتورية فكانت هجرة كتبت لأبنائه مجدا جديدا وخلودا ورسالة الفينيق المنبعث من وسط الرماد ليعلن ميلاد الشمس في كل يوم وان الحياة فعل مضارع اعرابه الخلود يعيش منذ بداية الماضي نحو تشكيل المستقبل ورسم خارطة التاريخ البشري كيف لا وهيرودوت اليوناني الذي كتب في ملحمته الشهيرة:
إن أولئك الفينيقيين الذين قدموا إلى هذه البلاد مع قدموس، ومن بينهم الغفرائيون، حملوا معهم مجموعة من المعارف ومن بينها الأبجدية وادخلوها عند الإغريق والتي، حسب ما اعتقد، لم تكن معروفة في هذه المنطقة من قبل. في البداية اسْتُخْدِمَت هذه الأبجدية كما كانت تستخدم عند جميع الفينيقيين. ولكن في مجرى الزمن، تأقلمت هذه الأحرف مع اللغة، واتخذت شكل آخر. اعتمدت أيضا البلدان المجاورة التي كانت تحت حكم الأيونيين هذه الأبجدية التي تعلموها من قبل الفينيقيون وقاموا بإجراء بعض التغييرات الطفيفة. يجدر بنا أن نعْدُل بحسن النية ونمنح اسم الأبجدية الفينيقية لهذه الكتابة، لأن الفينيقيون هم الذين أدخلوها إلى اليونان.
وقدموس هو الاخ الشقيق للأميرة اوروبا الذي خرج مع اخوته بحثا عن الاميرة المخطوفة فوصل قدموس الى مدينة دلفي باليونان حيث امره اهل المدينة بالتوقف عن البحث وان يتبع البقرة الموجودة خارج معبد المدينة وبالفعل تابع قدموس مسيره خلف البقرة واوصلته الى هضبة مرتفعة استقر بها واسس مدينة طيبة في حين اخويه كليكس وثاسوس تابعا المسير والبحث الى ان توقف كليكس في الاناضول واستقر بها واسس كيليكية في حين ان ثاسسوس استقر في جزر تراقيا باليونان وكأن الاسطورة عادت عودة الفينيق من الرماد تحكي قصة التغريبة السورية وفصول مأساتها بين قوافل التعذيب التي تغيرت ملامحها في الاقبية وتحولت من أسماء شخصية الى ارقام لوغاريتمية تبحث عن عالم أثر يتقصى الحقيقة في جسد الضحية او تنشد العدالة الهاربة والمحتجزة قسرًا في اقبية الاستجواب ومراكز الامن.
وبين قوافل الهجرة نحو الجدة الشجرة بحثا عن سراب يدعى الامل هذه الحرب التي ايقظت التاريخ مجددا من غفوته وارسلت للبشرية كتابا تعلن فيه ما قاله عالم الاثار الفرنسي وقارئ النصوص الاوغاريتية في جملته الشهيرة. (لكل امرئ متحضر وطنان وطنه الذي يعيش وفيه وسورية).