سألته ذات يوم ممازحاً: يا عم (أبو أسامة) حد بسيب أمريكا وشغلها وبيرجع على غزة؟
أجابني وكأني بصدى صوته يرن في أسماعي إلى الآن: هادي البلاد أمانة وقضية يا سعد، واللي عنده انتماء لقضية لا أمريكا ولا 1000 أمريكا بتغريه.
أ.د.م جمال الزبدة “أبو أسامة” مؤسس ورئيس قسم الهندسة الميكانيكية في الجامعة الاسلامية، الحاصل على درجتي الماجستير والدكتوراة في الهندسة الميكانيكية “أعتى فروع الهندسة” من الولايات المتحدة، العقلية الفذة التي كانت أطروحته للدكتوراة تتعلق بمحرك طائرة F-16 المقاتلة في جامعة فيرجينيا، والعالم الذي حصد براءات الاختراع وعاد إلى غزة رافضاً كل عروض العمل والتدريس وحياة الأحلام في نخبة الجامعات الأمريكية.
هذا الأكاديمي الحق والمهندس الفذ والعقلية الجبارة والمقاتل العنيد، شخصية كانت تنتقل بروح الله ومعيته من قاعات المحاضرات إلى المعامل والمختبرات وترابط في ورش التصنيع والتطوير ومختبرات الـمــ ــقــاومة ومعاملها حتى أجرى الله على يديه وأيدي تلاميذه وأخوانه ما يسيئ اليوم وجه العدو ويشفي صدور قوم مؤمنين.
هذا الذي انتصف يومه وانقسمت حياته بين تدريس وإعداد آلاف المهندسين في مختلف تخصصات كلية الهندسة بالجامعة الإسلامية في غزة، وبين إعداد وتدريب المقاتلين والفنيين والمهندسين ليكونوا روافع ودعائم للعمل العسـ ـكري المقاوم الذي يدك اليوم قـ ـلــ ــب الكيان المسخ.
أذكر جيدا كيف طرقت باب مكتبه في مبنى الإدارة قبل 9 سنوات، وأمام ابتسامته الطيبة لم أملك من القول إلا أن القي بطلبي مباشرة “يا دكتور بدي أكون معك في مشروع التخرج” كنت يومها قد استبقت الخطة الدراسية وما تبقى من ساعات وعقدت العزم على أن أكون جنديا تحت إمرة “أبو أسامة” وهو ما كان وتحقق طوال عام كامل من العمل والإنجاز في مشروعه الفذ وفكرته التي تتالت أجيال من المهندسين سعياً لتطبيقها، وأعوام من الفخر والاعتزاز بأرشيف من الصور والمواقف والأحداث التي جمعتنا به، والفخر المتصل بأني كنت يوما ما من تلاميذ هذا العملاق وأنني قد تخرجت من كلية الهندسة من بوابته.
في سنوات دراستنا الأولى كانت حدود معرفتنا بالدكتور أنه عقلية فذة لامعة، متدين “ذو فكر” إسلامي، يمتلك ذائقة أناقة واضحة في هندامه وحضوره وأسلوبه وحديثه، مرح بشوش بسّام اعتاد بعد طلابه المقربين أن ينادوه مازحين بـ “جيمي”، وكان أول المحطات التي لا تنسى خلف سيرة الدكتور، هو قصف منزله خلال معركة حجارة السجيل عام 2012، يومها تعالت بعض الهمسات والتخمينات والأقاويل عن دور وظيفي ما للبروفيسور في مشروع الـ ـمـ ـقاومة دون أي تحديد مسبق أو بمعرفة بحجم الدور الذي يشغله هذا العملاق المـ ــجـ ــاهد.
اليوم يمضي البروفيسور جمال الزبدة إلى ربه شـ ـهــيـ ـدا بعد رحلة جد وجهد وجــ ــهـــ ــاد، يرحل صاحب الألقاب الثلاثة “أستاذ دكتور مهندس” رفقة كوكبة من المقاتلين والمهندسين وقدامى المطاردين من قادة هـ ـيـ ـئة أركـ ـان الـ ـكتـ ـايـــ ــب، في لوحة تحمل في تفاصيلها ألف ألف حكاية، هذه فلسطين وهؤلاء أبناؤها الذين طاردوا “إسرائيل” وطاردتهم لعقود من الزمن، ارهقوها سنينا حتى خرج اليوم رئيس وزرائها الساقـ ـط في مؤتمر صحفي أقيم خصيصا ليتباهى باغتيـ ـالهم، يرحل “أبو أسامة” وقد أقر عينه وأرضى ربه وترك خلفه من الرجال والعقول والبأس الشديد ما هو أهل لأن يكمل الدرب ويصون الوصية.
إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله
إلى رضى الله ورضوانه ومغفرته وجناته يا “بروفيسور المــقــ ـاومـ ـة”
إن مشروعا جنده وعقوله من أمثالك لا يهزم .. لا و الله لا يهزم.
سلام الله عليك كلما حلّقت الأبـ ـابيـ ـل وقصفت
سلام الله عليك كلما زمجرت الراجـ ـمـ ـات وكبّرت
سلام الله عليك كلما ذكر الإعداد والتطوير والبأس الشديد
سلام الله عليك كلما امتد شعاع النور من غزة إلى أقاصي البلاد ليجمع شتاتنا ويوصل أركاننا
ومثلك لا يرحل إلا شـ ـهــ ــيــ ــدا يا دكتور جمال
ومثلك لا يرحل إلا مقاتلا فذا عنيدا يا أبا أسامة
” إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”
** تحديث: أعلنت عائلة الشـ ـهيـ ـد البروفيسور “جمال الزبدة” أيضا عن ارتقاء نجله الأكبر “م. أسامة” شـ ــهيــ ـــدا برفقة والده في ذات عملية الاستهداف الجبانة.
المصدر: منقول عن سعد الوحيدي