عماد كركص
منذ انطلاق الثورة السورية منتصف العام 2011، لم يتوانَ نظام بشار الأسد عن زجّ الجيش في مواجهة المدنيين الثائرين ضده، ليؤسس حالة من العدائية الكبيرة بين السوريين والجيش الذي أنفق عليه من ميزانية بلادهم وعوائد ثرواتها وأكثر من 70 في المائة من الضرائب التي يدفعونها للدولة، ما جعل الوصف المتداول لهذا الجيش هو قوات النظام أو قوات الأسد.
ولا يخفى على أحد الجرائم والدمار اللذان يقف وراءهما هذا الجيش منذ 2011، وطاولا المدنيين وممتلكاتهم الخاصة بالإضافة إلى البنى التحتية والخدمية من الممتلكات العامة، فارتكب عناصر هذا الجيش جرائم اغتصاب وقتل واعتقال، ونفذوا عملية منظمة للنهب والسرقة، ما دفع سوريين لإطلاق صفة أخرى عليه هي جيش التعفيش، والكلمة الأخيرة مشتقة من اللفظ العامي عفش أي الأثاث والمفروشات، التي أفرغ الجيش المنازل منها مع كل اقتحام لأي بلدة أو قرية أو مدينة بعد تهجير سكانها، وعلى مختلف الجغرافيا السورية.
ويمكن القول إن ظاهرة الانشقاق التي أخذت بالتصاعد منذ الشهر الثالث على اندلاع الثورة وحتى نهاية العام 2013، والتي اعتبرها رئيس النظام نفسه أنها حالة صحية، حسمت موقف الضباط والعناصر داخل الجيش، إذ ساعدت بفرز الموالين للنظام عن غيرهم من مناوئيه، الذين إما فضّلوا البقاء في منازلهم على المشاركة في عمليات القتل والانتهاكات على اختلافها، أو تطوعوا في صفوف المعارضة المسلحة، أو كانت السجون والمعتقلات مكاناً لاختفاء أخبارهم بعد انكشاف أمر نوايا انشقاقهم أو رفضهم للأوامر، وهذا على مستوى الضباط والعناصر.
هذه المؤشرات كانت علامات على تحوّل في هذا الجيش خلال السنوات العشر الماضية، فمن الداخل تفكك الجيش، وتحوّلت وحداته إلى ما يشبه المليشيات منفصلة التبعية والقيادة، وباتت الكثير من الوحدات خارجة عن قرار النظام نفسه نظراً لفرض التبعية عليها سواء من قبل الروس أو الإيرانيين الذين تدخّلوا لحماية النظام عسكرياً وسياسياً. كذلك، فرض زيادة التدخل الروسي والإيراني واستنزاف الجيش ظاهرة إلحاق مليشيات بالجيش أو بالعمل إلى جانبه كقوات رديفة، فكان لهذه القوات دور مهم في تحرك الجيش، لتصل بعض مهام تلك المليشيا إلى قيادة عمليات التخطيط للمعارك وتنفيذ عمليات الاقتحام الصعبة.
كما بقي جيش النظام ملتصقاً بصفة باتت معروفة لجميع السوريين وتتمثل بقيادته وبنيته الطائفية، إذ تأتمر الوحدات الرئاسية فيه من ضباط من أبناء الطائفة العلوية، التي ينتمي إليها الأسد، بحسب العديد من الدراسات، التي بيّنت أن حافظ الأسد كان قد صبغ المؤسسة العسكرية أو قيادتها بلون الطائفة، وجعل أمر مراقبتها بيد جهازي المخابرات الجوية والعسكرية، وكلاهما يتحكّم بهما ضباط من الطائفة العلوية من أعلى الهرم إلى قاعدته، ما ضَمَن الولاء المطلق. وزادت حالة الاعتماد على أبناء الطائفة العلوية في تشكيل الجيش مع وصول بشار الأسد للسلطة، واندلاع الثورة السورية ضد نظام حكمه.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على الحراك الشعبي، يُطرح تساؤل عن بنيان الجيش راهناً، والحال الذي وصل إليه. هذا ما تحاول العربي الجديد الإجابة عنه استناداً إلى دراسات عدة تناولت هذا الملف، أبرزها واحدة أنجزها مركز عمران للدراسات (يدار من قِبل معارضين سوريين)، إضافة إلى دراسة غير منشورة أعدها العميد فاتح حسون، الذي يقود حركة تحرير الوطن، وفصّل فيها بنية الجيش في السابق ومكامن قوته وعتاده وأين أصبح الآن.
200 ألف منشق
أشارت الدراسة التي أجراها العميد فاتح حسون، وحملت عنوان الجيش السوري ـ أرقام في مطحنة النظام، إلى وجود نحو 200 ألف حالة انشقاق وتخلّف عن الخدمة خلال مرحلة أحداث الثورة، منها نحو 5000 حالة انشقاق لضباط، إلا أنها كحالة عامة لم تتجاوز حالات الانشقاق الإفرادي، ولم تحصل حالات انشقاق جماعية لوحدات عسكرية بأسلحتها الثقيلة. ولكن في الوقت نفسه، كانت هناك محاولات من عدة ضباط لتنظيم حالات تمرد وعصيان عسكري جماعي لمناصرة الحراك، ولكن لم يكتب لها النجاح، وواجه معظمهم السجن والإعدام، فيما تمكّن عدد آخر من الفرار والانشقاق.
وأكدت الدراسة أن الحالات الكبيرة للانشقاق والتخلّف عن الخدمة العسكرية أثرت كثيراً على الجيش، الذي انخفض تعداده من 300 ألف مقاتل في بداية الثورة، إلى ما بين 80 ألفاً و100 ألف عنصر على أكثر تقدير عام 2021. ولم يكن التخلّف عن الالتحاق به في صفوف المعارضين فحسب، بل تجاوزه إلى الموالين لنظام الأسد بسبب عدد الضحايا الكبير الذي خلّفته المواجهات، وتهرّب أبناء المسؤولين، خصوصاً آل الأسد والقريبين منهم، من الخدمة في صفوف الجيش، أو إبعادهم عن خطوط المواجهات. وهذا الانخفاض الكبير دفع بالنظام وداعميه إلى استيراد المرتزقة من كل الأصقاع، وعند فشل الاعتماد على المرتزقة كان الخيار بطلب التدخّل الروسي والإيراني، وكان الثمن الارتهان لهما.
تقطيع الأوصال والاتصال
وأشار حسون في دراسته إلى أن الأسد عندما استشعر خطر تمدد الثورة وانقلاب الجيش عليه، أعدّ الخطط الاستخباراتية والعسكرية، وسارع إلى اعتماد طريقة التشكيل العملياتي الخاص للوحدات والقطعات والتشكيلات التي أعدها لمواجهة الثورة، وهو مزيج من عدة وحدات واختصاصات وتنوع بالأسلحة، وإجراء تنقلات وتعيينات قيادية ميدانية جديدة، لتكون هذه العملية المتكاملة والمفاجئة والمتغيرة قادرة على تأمين التكامل الذاتي في مختلف أنواع الأسلحة، وفي الوقت نفسه تؤدي إلى قطع الروابط والصلات بين القادة والعناصر، وتصبح عملية الانشقاق أقرب إلى الاستحالة. ومن خلال هذا الأسلوب المنتهج في التشكيل العملياتي، بات من الصعب جداً معرفة الوحدات العاملة على اتجاه ما، ومن هي الوحدات العاملة في هذا الاتجاه أو ذاك، ناهيك عن أحجامها ونوع تسليحها، خصوصاً بعد أن أضاف إليها أيضاً بعض القوى الأخرى من عصابات الشبيحة، والعصابات المدربة من حزب الله اللبناني، والمجموعات العراقية والإيرانية. وأصبح القطاع القتالي أو الجبهة تتبع قيادات متعددة لا يوجد بينها تعارف سابق ولا ترابط إلا من بعض التنسيق الذي تتطلّبه ظروف المعركة.
وفي محاضرة قدّمها قبل بضعة أشهر، أشار العميد حسون إلى أن قوام ضباط الجيش كان حوالي 50 ألفاً قبل الحراك، في إحصائية تقديرية، لكن هيكلة الضباط كانت طائفية بامتياز، موضحاً أن 80 في المائة من هؤلاء الـ50 ألفاً هم من الطائفة العلوية، في حين يحوز السنّة على نسبة 10 في المائة فقط من الضباط، فيما يتقاسم باقي المكونات الطائفية الأخرى الـ10 بالمائة المتبقية.
وأشار حسون في محاضرته إلى الوضع الحالي للجيش، مؤكداً أن هناك أكثر من 6000 ضابط منشق، وأن الجيش خسر وخرج من جاهزيته القتالية خلال سنين الثورة نحو 60 في المائة من قواه البشرية ونحو 55 في المائة من مركباته وعرباته القتالية وعتاده المدرع، ونحو 61 في المائة من قواته الجوية، ولم يستطع تطوير وتحديث الأسلحة المتبقية الهالكة.
تقسيم طائفي
دراسة تفصيلية أخرى قدّمها مركز عمران للدراسات، ذكرت أن أهم أربعين منصبا في أبرز أربعين وحدة مقاتلة في الجيش يتسلّمها ضباط علويون مقربون من الأسد. وأشارت الدراسة إلى أنه قبل عام 2011، تكوّن الجيش تاريخياً من ثلاثة فيالق عسكرية في القوات البرية، تضم 12 فرقة عسكرية أساسية إضافة إلى الحرس الجمهوري والقوات الخاصة وحرس الحدود، بالإضافة إلى فرقتين جويتين (الطيران) وفرقتي دفاع جوي (مضادات الطيران والصواريخ) وعدة ألوية في القوات البحرية، ناهيك عن عشرات الإدارات والوحدات العسكرية والألوية المستقلة وغيرها. وكانت المناصب الأساسية في تلك الفرق والوحدات والإدارات تتوزع على مختلف الطوائف الموجودة في سورية ضمن ثالوث القيادة مع وجود تفضيل لاستلام ضباط علويين قيادة مناصب معينة. واستمر منهج ثالوث القيادة كمعيار ناظم لتصميم قيادة الوحدات العسكرية حتى قبل بداية الثورة عام 2011، إلا أنه بعد بداية الثورة، زجّت قيادة النظام بوحدات معينة من الجيش في الأحداث الدائرة، واعتمدت بداية على وحدات معروفة بولائها الطائفي للنظام. ومع تزايد حدّة الاحتجاجات الشعبية وفشل الأجهزة الأمنية في مهامها، تزايد بشكل مطرد دخول وحدات أخرى من الجيش.
ونتيجة لممارسات وحشية قام بها الجيش، بدأت تظهر حالات انشقاق عنه، ازدادت وتيرتها بشكل ملحوظ مع كل انتشار جديد للوحدات العسكرية. وتركزت حالات الانشقاق خصوصاً ضمن صفوف العسكريين السُنّة بمختلف فئاتهم، سواء من الضباط أو صف الضباط أو حتى الأفراد في الخدمة الإلزامية، بالتزامن مع عزوف شبه تام عن الالتحاق بالجيش على صعيدي الخدمة الإلزامية أو الخدمة الاحتياطية.
ومع هذه الانشقاقات، بدأ ثالوث القيادة بالتصدع لصالح تولي ضباط من الطائفة العلوية المناصب القيادية في الجيش بشكل أكبر من السابق، وليس في الصف الأول فقط، وامتد هذا الأمر ليشمل بقية الصفوف وبشكل ملحوظ. وبدا مع كل نشرة تعيينات أو حتى من دونها، تحوّل الجيش لمؤسسة همها الأوحد الحفاظ على النظام الحاكم، وكلّ ذلك جاء نتيجة اتّباع النظام سياسة تخويف الطائفة العلوية من سقوط النظام وتبعاته المفترضة عليها.
وأكدت الدراسة أنه نتيجة الصراع الدائر منذ 2011 وتدخّل قوى أجنبية لصالح نظام الأسد، ومع التدخّل العسكري الروسي المباشر حتى في بنية الجيش السوري، أصبح الجيش يتألف من خمسة فيالق عسكرية في القوات البرية تضم 17 فرقة عسكرية أساسية، إضافة إلى الحرس الجمهوري والقوات الخاصة وحرس الحدود في القوات البرية. في حين حافظت القوى الجوية والدفاع الجوي والقوى البحرية والدفاع الساحلي على بُنيتها السابقة، مع تغييرات بسيطة على بقية الوحدات والإدارات والألوية المستقلة. كما أدى الصراع العسكري مع مقاتلي المعارضة إلى خروج عدد من الألوية والوحدات العسكرية عن الخدمة، مقابل تأسيس وحدات جديدة خارجة عن المألوف والعرف العسكري، بالإضافة إلى الاستعانة بعدد من المليشيات الأجنبية التي تحمل أيديولوجية طائفية، تضاف إليها مليشيات تقاتل مع النظام بطابع قومي عروبي بحجة أن النظام عروبي مقاوم، والتي سعى الجيش لضم بعضها ضمن صفوفه، وبالأخص ضمن وحدات الفيلق الخامس والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري.
وشرحت دراسة عمران للدراسات، الأسباب التي أوصلت إلى جعل هذه المؤسسة بصبغة طائفية، لافتة إلى أسباب تاريخية كالأساس الذي بني عليه الجيش منذ قضية وحدات المشرق الخاصة، وأسباب تتعلق بوصول حزب البعث العربي الاشتراكي عبر انقلاب عام 1963 وسيطرة الضباط البعثيين من الأقليات الطائفية في سورية على مجلس قيادة الثورة، والصراع مع حركة الإخوان المسلمين، وصولاً إلى أحداث الثورة منذ 2011. من جهة أخرى، تبرز أسباب أخرى دفعت لتنامي هذه المنهجية، كممارسة الإقصاء بحق منتسبي الكليات الحربية من مختلف الطوائف ومن ضمنها السنّة، في مقابل زيادة نسبة المنتسبين العلويين في سلك الضباط. كما عزف السّنة عن التطوع في سلك الضباط نتيجة الشعور السائد بأن أعلى رتبة قد يصل إليها الضابط السنّي هي رتبة عقيد، في حين أن الحظ سيكون حليف القلة القليلة أصلاً في تجاوز هذه الرتبة.
المصدر: العربي الجديد